قبيلة غفار
كل هذه الأمثلة والقصص التي ذكرناها هي لأفراد لامس الإيمان قلوبهم فتغيرت، لكن خذ قصة ومثالًا لقبيلة كاملة لامس الإيمان قلوب أفرادها، فحدثت في حياتها النقلة الهائلة، وليس أي قبيلة، بل قبيلة اشتهرت بالسرقة وقطع الطريق، يعني: أنهم كانوا مجموعة من اللصوص وأبعد الناس عن طريق الهدى والصلاح، قبيلة غفار، القبيلة التي منها الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري ﵁ وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي هو من أوائل من أسلم وعاد إلى قبيلته يدعوها إلى الإسلام، يدعوهم إلى ترك عبادة الأصنام، يدعوهم إلى أن يعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو، يدعوهم إلى ترك منهج الحياة الذي كانوا عليه تركًا كليًا، يدعوهم إلى أن يسلكوا منهجًا مغايرًا تمامًا، ومعنى ذلك: أنه يدعوهم إلى أن يغيروا كل شيء في حياتهم، وهذا ليس سهلًا، فبدلًا من أن يقطعوا الطريق على الناس يدعوهم إلى أن تكون رسالتهم في الحياة أن يحفظوا للناس دينهم وأموالهم وحياتهم، وبدلًا من أن يأخذوا من الناس أموالهم سيدعوهم إلى أن يعطوهم من زكاتهم وصدقاتهم، وبدلًا من أن يمتلكوا قلوب الناس بالسطو على الناس بالقوة والبطش والإجرام والظلم يدعوهم إلى امتلاك قلوب الناس بالرفق والدعوة والحلم والحب.
فهذه معاني ما أتت في فكر قبيلة غفار قبل هذا نهائيًا، وكان أمرًا خطيرًا على حياة أبي ذر أن يذهب ليغير منهج قبيلة كاملة، قبيلة اعتادت على قطع الطريق، ثم يقول لها: عيشوا حياة ثانية، ويصر على موقفه هذا، وتأملوا أيضًا في قبيلة غفار كيف أن مجموعة من اللصوص تعاونت على الشر والإثم ستغير حياتها كلها، وتنتقل إلى حياة أخرى نظيفة وجميلة وسعيدة بسعادة الإسلام لا بسعادة الدنيا، لا شك أن خطوة قبيلة غفار أصعب من كل خطواتنا، فلا يوجد أحد منا عنده هذه البداية الصعبة التي كانت عند قبيلة غفار، وأريدك أن تقف مع أبي ذر وهو واقف يفكر في كيف أنه سيكلم هؤلاء الناس، وسبحان الله فإن أبا ذر لم يثنه تاريخ القبيلة عن أن يتحدث معهم في أمر الإيمان، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فآمنت وأسلمت قبيلة غفار كاملة، آمن اللصوص وقطاع الطريق، فانتقلوا بإيمانهم هذا من درجة قطاع الطريق إلى درجة الصحابة مرة واحدة، وكل هؤلاء صاروا صحابة وقبلها بلحظة واحدة كانوا كلهم قطاع طريق، وبعدها بلحظة واحدة صاروا مرة واحدة من الصحابة من أفضل أجيال الخلق، تمامًا كالذي ينتقل من الأرض إلى السماء والفارق لحظة واحدة، لحظة صدق، فيا ترى كم واحدًا منا كانت بدايته أسوأ من بداية قبيلة غفار؟ أعتقد أنه لا أحد، وحتى لو كان فينا واحد تاريخه كله سرقة واحتيال وإجرام لا يمكن أن يبتدئ بداية كبداية قبيلة غفار، وإنما يكفي أن يعزم على التوبة ويندم على ما فات، ويقرر أن لا يعود إلى المعصية، فتصبح صفحته نقية طاهرة بيضاء.
وانظر إلى التعليق النبوي الرائع على إسلام قبيلة غفار، ففي البخاري ومسلم وغيرهما: عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي ذر ﵃ جميعًا أنهم قالوا: قال رسول الله ﷺ: (غفار غفر الله لها)، أي: أن كل الذي فات قد محي، وانظر إلى أي حد الرسول ﷺ يأتي لهم بمعنى لطيف جدًا مناسبًا لهم، ويمكن أن يقول أحدهم: تاريخي كله سرقة وقطع طريق وقتل ونهب وظلم، فهل هناك شيء اسمه التوبة؟ نعم، فهذه غفار شغلتها قطع الطريق فغفر الله لها بالتوبة والرجوع إليه، فيا ترى هل نريد أن نعيش حياة غفار قبل الإسلام، أم نريد أن نعيش حياة غفار بعد الإسلام؟ نحن الذي نختار ونقرر.
3 / 9