في الفصل 14 أفرد ديو لنفسه مساحة لتأمل التكهنات المحيطة بوفاة كليوباترا، فتحول إلى ما يشبه المحقق السري. ويبدو أن ديو لم يملك سوى القليل من الأدلة الحقيقية التي تدعم تكهناته، وربما لهذا السبب نجد هذه التكهنات في جزء منفصل عن وصف وفاة كليوباترا، فكتب ديو يقول:
من الواضح أن لا أحد يعلم الطريقة التي ماتت بها؛ إذ إن العلامات الوحيدة الموجودة على جسدها كانت مجرد ثقوب خفيفة على ذراعها. يقول البعض إنها وضعت أفعى على جسدها كانت قد أحضرت إليها في إناء للماء، أو ربما كانت مخبأة في بعض الزهور. يقول آخرون إنها دهنت دبوسا اعتادت ربط شعرها به ببعض السم الذي كان يملك خاصية أنه لا يؤذي الجسم في الظروف العادية على الإطلاق، لكنه إذا وصل ولو حتى إلى قطرة واحدة من الدم فإنه يدمر الجسم بهدوء ودون ألم. وإنها كانت تضع هذا الدبوس من قبل كالمعتاد في شعرها، لكن وقت وفاتها صنعت جرحا سطحيا في ذراعها وغرست الدبوس في دمها. حدثت وفاتها إما بهذه الطريقة أو بطريقة أخرى مشابهة، ومعها اثنتان من خادماتها. أما بالنسبة للمخصي؛ فقد ذهب بإرادته إلى الأفاعي عندما قبض على كليوباترا، وبعدما تعرض للدغ قفز داخل كفن كان معدا له. (ترجمة ثاير، طبعة لوب)
يقول المؤلف إن أوكتافيان صدمه خبر انتحار كليوباترا. يشير ديو أيضا إلى الأفارقة الذين ذكرهم سويتونيوس، الذين حاولوا إنقاذ الملكة. وعلى الرغم من ذكر ديو أن كليوباترا كانت تحتفظ بزواحف وتضع فكرة الانتحار في ذهنها، فإنه لا يذكر إلا أن المخصي قتل نفسه بلدغة ثعبان (بالدوين 1964: 182). ومع ذلك، فإن حقيقة ذكر كل من بلوتارخ وديو أن أغسطس حاول إنقاذ كليوباترا باستخدام قدرات الأفارقة تشير إلى أنه كان يعتقد أنها استخدمت سم الثعبان في الانتحار (بالدوين 1964: 182)، ورغم ذلك من غير المعروف إذا كان هذا الجزء من القصة قد استخدم لمجرد توضيح محاولاته لإبقاء الملكة على قيد الحياة. كذلك لا يعني تطابق روايتي مؤلفين بالضرورة دقة عملهما، وإنما أنهما استخدما المصادر المكتوبة نفسها في عملهما.
عندما فشل أوكتافيان في إنقاذ كليوباترا «أعجب بها وأشفق عليها على حد سواء، وحزن بشدة، كما لو كان قد حرم من كل مجد انتصاره.» يواصل ديو في الفصل 15 تحليل شخصية هذين الزوجين اللذين «سببا كثيرا من المآسي للمصريين وللعديد من الرومان؛ فشنا حربا ولقيا حتفهما بالطريقة التي وصفتها». يقول المؤلف إن الزوجين حنطا ودفنا في القبر نفسه.
يشكك عدد قليل من المؤلفين في صحة الظروف المحيطة بوفاة كليوباترا، ويفضلون تكرار الرواية المألوفة عن الأيام الأخيرة في حياة الملكة. في عام 1925 لم يكتف شبيجلبيرج بقوله إن كليوباترا السابعة ماتت بلدغة الثعبان فحسب بل زعم كذلك أن الدلالة الرمزية المرتبطة بالثعبان كانت مقصودة وطريقة الوفاة منتقاة بعناية. تتمثل الدلالة الرمزية التي أشار إليها شبيجلبيرج في الكوبرا الملكية التي تحمي الحكام وبعض الآلهة. ناقش جريفيث (1961: 113-118) هذه الفرضية وكان محقا إلى حد ما في شكه في فكرة تحول رمز الغرض منه حماية الحاكم إلى عكس الغرض منه . كان جريفيث محقا أيضا في شكه في نظرية أخرى قدمها شبيجلبيرج تقول إن الثعبان كان مرتبطا بالإلهة إيزيس؛ فإن هذه العلاقة، وفقا لاستنتاج جريفيثس، اختراع روماني ظهر في وقت لاحق ولا يوجد أي دليل من العصر البطلمي يشير إلى ظهور كوبرا مع إيزيس، باستثناء تلك التي كانت تزين تاجها أو تظهر على جبهتها (أشتون 2004ج: 56-60). هذا وقد ترسخت الدلالة الرمزية الكلاسيكية للثعبان على أنه كائن يرتبط بالهلاك قبل وفاة كليوباترا بوقت طويل، ونظرا لأن المؤلفين الذين ذكروا هذا الأمر كانوا أنفسهم جزءا من الثقافة الكلاسيكية فمن غير المنطقي استنتاج أن تكون نظرية الأفعى مرتبطة بالأدب الإغريقي (بالدوين 1964: 181). (2) المواقف القديمة تجاه الانتحار
لعبت روما دورا مهما في قصة انتحار كليوباترا، رغم أنه من المهم التأكيد على أن إزهاق الملكة لروحها أراحها إلى حد ما من نقادها؛ ففي الثقافة الإغريقية القديمة كان الانتحار بالسم وسيلة لإعدام السجناء، وربما كان سقراط أحد أشهر الشخصيات التاريخية التي أجبرت على شرب سم الشوكران. نشرت دراسة عن الانتحار في العالم القديم عام 1990 (فان هوف) وتضم أمثلة أسطورية وتاريخية، فيستعرض فان هوف أسباب الانتحار المختلفة ويستنتج أن كليوباترا يفضل إدراجها تحت فئة الانتحار الناتج عن الخزي أو لكونها «لم تعد ما كانت عليه» (فان هوف 1990: 107-120، خاصة 115)، وفي هذا الإطار تبدو دوافع الخزي (110) والرغبة في الهروب من الأسر (111) أسبابا محتملة. ومع ذلك، توجد أسباب أخرى يحتمل توافقها مع موقف كليوباترا، مثل اليأس (85-94) والحزن (99-105)، وهي أسباب معقولة أيضا لانتحار الملكة.
استعرضت الدراسة أيضا وفاة خدم كليوباترا بجانب وفاة الملكة، فيقول فان هوف إنه لم تكن هناك أمثلة سابقة قبل «الحقبة الهيلينية» على قتل الخدم لأنفسهم بسبب وفاة مالكهم (فان هوف 1990: 18). وهو استنتاج تعوزه الدقة؛ ففكرة دفن الخدم مع الموتى كانت موجودة بالفعل في الأسرة الأولى في مصر؛ فالمقابر الملكية في مدينة أبيدوس تشير إلى أن الحكام كانوا يدفنون مع خدمهم. كذلك يوجد بعض الروايات في مصر عن اختيار أشخاص على قيد الحياة ودفنهم بجوار مالكهم/أفراد أسرتهم. ومنذ عهد الفترة الانتقالية الثانية في مصر احتلت تماثيل شبتي/أوشبتي الصغيرة محل الخدم الحقيقيين؛ ومن ثم يبدو انتحار تشارميون وإيراس نابعا على الأرجح من مفهوم دعم المتوفى في الحياة الأخرى الموجود في الثقافة المصرية، بالإضافة إلى إظهار ولائهما للملكة.
تثني المصادر الرومانية المكتوبة على شجاعة كليوباترا بانتحارها. يصور هوراس كليوباترا على أنها شخصية فاسقة، لكنها تتمتع بشجاعة الرجال «فهي لم ترتعد من الخوف، مثل النساء، عند التفكير فيما قد يفعله الخنجر»، فيشير هوراس مرتين في البيت الشعري نفسه إلى شجاعتها وفي المقطع نفسه توجد إشارة إلى تسممها بسم الثعبان؛ فقد نظر الرومان إلى اختيارها الانتحار على الأسر بإعجاب شديد؛ فعلى الأقل تصرفت تصرفا شريفا، على ما يبدو.
وفي المجلد الثاني من كتاب فيليوس باتركولوس «الأحداث التاريخية» تصور كليوباترا على أنها مثال آخر على ضعف أنطونيو أكثر من كونها سببا في هلاكه. يكفر أنطونيو عن أخطائه بالانتحار في الفصل 87 ثم يخبر المؤلف القارئ بأن كليوباترا أنهت حياتها بسم أفعى «دون التأثر بخوف النساء». هذا ويلمح يوسيفوس («الحرب اليهودية» 1 20. 3. 396-397) إلى شجاعة كليوباترا في سياق الحديث عن وفاتها، وتظهر في القصيدة الغنائية 37 لهوراس، الذي كتب يقول: «زادت قسوتها عندما أصبحت في مواجهة الموت. فنظرت بشجاعة، كأنها لا تبالي، إلى حطام قصرها، ومدت يدها في جرأة ولمست الثعابين السامة، ثم رفعتها إليها وأحكمت قبضتها عليها، وقربتها منها كي يشرب قلبها حتى يرتوي من سمها الأسود» (ترجمة فيري 1997: 97).
نادرا ما يظهر الانتحار في الكتابات المصرية؛ فقد سمح للموظفين بإزهاق أرواحهم بعد مؤامرة الحريم التي حدثت في أثناء حكم رمسيس الثالث، الذي حكم تقريبا من 1184 حتى 1153 قبل الميلاد (تايلور 2001: 41). وحدثت حالة الانتحار الأخرى الوحيدة الموثقة جيدا بعد فترة من عهد كليوباترا السابعة؛ وكانت لأنتينوس حبيبة الإمبراطور هادريان، التي غرقت في النيل عام 130 ميلاديا (لامبرت 1984: 128-142). وتعتبر حالة الانتحار أو هذه الحادثة على وجه الخصوص - التي تزخر المصادر بالتكهنات عنها - مختلفة بسبب وجود اعتقاد في أن الذين يتعرضون للغرق هم مباركون (تايلور 2001: 41). منح الإمبراطور هادريان أنتينوس مكانة الربة وانتشرت العقيدة التي خصصها لهذه الإلهة الجديدة بنجاح من مصر إلى جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية.
Halaman tidak diketahui