من أجل أي قدر من المال يوجد أمل ضئيل في حيازته، كانت تنتهك المعابد والقبور على حد سواء، فلم يكن يحترم أي مكان مقدس بحيث تحذر إزالة أثاثه، ولم يسلم أي مكان غير ديني من المعاناة بشتى الطرق المحظورة ما دام يوجد احتمال أن يرضي جشع تلك المرأة الشريرة. إجمالا، لم تكن تلك المرأة المسرفة تكتفي بشيء، فقد كانت شهيتها تتحكم فيها حتى إن العالم بأكمله لم يستطع إرضاء رغبات خيالها. (4) العلم في عصر كليوباترا
من المهم أن نتذكر أن الإسكندرية في عهد كليوباترا كانت مدينة يسودها السخط وتعج بالمشكلات وتعاني من الاحتلال. تظهر الإشارات إلى السنوات الأولى في حكمها المشترك مع بطليموس الثالث عشر أن الحرائق التي كان الرومان يشعلونها من أجل إعادة السيطرة على المدينة دمرت جزءا كبيرا من المنطقة التي كانت تشكل وسط المدينة. دمرت هذه الحرائق كذلك مكتبة الإسكندرية الشهيرة. كانت المدينة في وقت من الأوقات موقع جذب للعلماء من كافة أنحاء العالم الإغريقي، وفي أوائل فترة حكم البطالمة حظي كثير من الشعراء وكتاب المسرحيات والعلماء والفلاسفة وعلماء الرياضيات المشاهير برعاية الأسرة الحاكمة البطلمية كجزء من الموسيون. ولت هذه الأيام قبل سنوات طويلة من حكم بطليموس الثاني عشر وكليوباترا السابعة. ومع ذلك، يوجد بعض الأدلة على حدوث نهضة في أثناء السنوات الأخيرة من عهد البطالمة، ربما حثت أنطونيو على تعويض محتويات المكتبة المدمرة من خلال إهداء كليوباترا مخطوطات مكتبة مدينة بيرجامون، التي توجد حاليا في تركيا الحديثة، والتي كانت إحدى المكتبات المنافسة لمكتبة الإسكندرية في وقت ما (بلوتارخ «حياة أنطونيو» 58؛ فريزر 1972: المجلد الأول، 335 والمجلد الثاني ، 494 رقم 299). كان الموسيون لا يزال مركزا للفلاسفة في أثناء السنوات الأخيرة من حكم البطالمة، وللباحثين أمثال يودوروس الذي كتب تعليقات على أعمال الفلاسفة الأوائل (فريزر 1972: المجلد الأول، 334-335). وكتب آخرون مثل بوتامون السكندري وأنيسيديموس من كنوسوس عن مفاهيم فلسفية جديدة وطرحوا بعضا منها (شوفو 2000: 174). وعلى عكس الفترات المبكرة التي كان فيها العلماء تحت سيطرة البيت الملكي، بدا أن الأكاديميين في الإسكندرية في عهد كليوباترا لم يكن لديهم أي التزام تجاه حكامهم (شوفو 2000: 175).
رافق أيضا الفيلسوف السكندري ديون، الذي لعب دورا مهما في نفي بطليموس الثاني عشر، كليوباترا إلى روما وأصبح معلم أوكتافيان. لم يعد ديون إلى مصر إلا عقب هزيمة كليوباترا ويقال إنه حث تلميذه السابق على إعدام بطليموس قيصر. كذلك غير آخرون مثل فيلوستراتوس، الذي كان أحد مستشاري كليوباترا، ولاءهم عقب وفاتها (شوفو 2000: 175). (5) خارج العاصمة
تحدثنا بالتفصيل في مواضع أخرى في هذا الكتاب عن معابد وصور كليوباترا في سياق الحديث عن دورها كحاكمة ووصية على العرش وإلهة. وربما تجدر بنا الإشارة إلى تطور إهداءات كليوباترا عبر أدوارها المختلفة وتلخيص ما نسب إليها من حيث سياساتها الدينية وتوجهاتها السياسية. وعلى الرغم من عدم وجود آثار مادية لكليوباترا في مدينة ممفيس، يبدو على الأرجح أنها استمرت في السعي للحصول على النصح والدعم من الكهنة هناك بالطريقة نفسها التي كون والدها بها علاقة وطيدة مع ذلك الكيان على وجه الخصوص. خارج الإسكندرية، كانت إهداءات كليوباترا الأساسية تتمركز جميعها في صعيد مصر. وكما أشرنا، كان كثير من هذه الإهداءات في مواقع بدأ بطليموس الثاني عشر بناءها، لكن الملكة أظهرت ولاءها الشديد إلى ابنها ومستقبل سلالتها؛ فبدلا من ربط نفسها بوالدها، أظهرت زخارف المعابد في دندرة وأرمنت رسوما زخرفية تروج لابن كليوباترا. وكانت عقيدتها بالطبع يحتفى بها في جميع المعابد المصرية، كما تشير الكتابات على جدران معبد إيزيس في جزيرة فيلة، التي تشير إلى أن تمثال كليوباترا الموجود هناك أعيد طلاؤه بالذهب (كواجبر 1988: 41).
بالطبع لم تقصر كليوباترا رعايتها على المشروعات الجديدة في الإسكندرية فحسب، فيشير لوح مهدى إلى ثور بوخيس أن الملكة كانت تهتم شخصيا بالشعائر المصرية. وكما أشرنا من قبل، يقال إن الملكة أوصلت ثور بوخيس الجديد بالقارب إلى موطنه؛ مما يشير إلى أنها كانت موجودة ربما حتى على القارب الذي نقل هذا الإله الجديد. ومع ذلك، من غير المعروف إلى أي مدى كانت لغة التعامل هذه مجرد لغة نمطية. تحدثنا بالفعل عن الزخارف الموجودة على معبد حتحور في دندرة ببعض التفاصيل، وكذلك المشروعات الأصغر حجما في أرمنت وقفط التي تحمل قيمة كبيرة أيضا نظرا لأهميتها الدينية. ومن الجدير بالذكر أن كليوباترا، على عكس والدها وأسلافها، لا توجد آثار لها في الكرنك، الذي يمثل أكبر تجمع للمعابد في مصر وأكثرها تأثيرا.
كما أشرنا من قبل، يقال إن كليوباترا اصطحبت قيصر إلى أعالي النيل لرؤية مصر العليا ومعابدها. ويمكن تفسير هذه الرحلة بطريقتين؛ أولا: أن كليوباترا أرادت أن تظهر للقائد الروماني ثراء دولتها وتراثها هي أيضا. أو ثانيا: أن الرومان أرادوا تأكيد سلطتهم وسيطرتهم على مصر. وربما تكون الحقيقة مزيجا من التفسيرين معا. قال سويتونيوس («يوليوس قيصر المؤله» 52. 1): إن القيصر لم يسمح لجيشه بالذهاب معه وإنه أبحر مع كليوباترا حتى وصلا تقريبا إلى إثيوبيا (التي تعني على الأرجح السودان/النوبة).
ظلت مدينة بطلمية أو «بسوي» المصرية تحتفظ بمكانة مهمة حتى نهاية عصر البطالمة. قال سترابو إنها كانت أكبر قرية في طيبة وفي نفس حجم ممفيس (17. 1. 42. 46)، ويقدر أنه كان يعيش فيها نحو 50 ألف شخص (طومسون 1988: 50). وحاليا، لا يوجد إلا عدد قليل من الآثار الباقية الظاهرة في الموقع، الموجودة بالقرب من مدينة سوهاج الحديثة. كانت هذه المدينة مركزا إداريا في جنوب مصر، وتصدق على ذلك بالفعل الوثائق التي تعود إلى العصر البطلمي. فقد الموقع أهميته في أثناء الاحتلال الروماني، لكنه ظل مأهولا. ومن المثير للاهتمام أن نعرف هل هذه المدينة إغريقية الشكل أم مصرية الشكل، خاصة عقب الاكتشافات الأخيرة لمنحوتات وأشكال معمارية على الطراز المصري في الإسكندرية نظيرتها الشمالية. تعبر هاتان المدينتان الإغريقيتان معا عن دور كليوباترا بوصفها سيدة الدولتين. ما زلنا لا نعرف هل كانت المدينة الجنوبية، بالإضافة إلى المعابد المصرية التقليدية، تحظى برعاية الملكة، ولا يمكن تحديد ذلك بدقة إلا من خلال المزيد من البحث في الموقع والبقايا الموجودة فيه.
الفصل السادس
كليوباترا الإلهة
(1) تطور السياسات الدينية في عهد ملكات البطالمة
Halaman tidak diketahui