وماذا يبغض الناس منه وماذا يعادون وهو في ذلك البحر زورق قد سقط مجذافه فليس له ما يضرب به وما يسخر به، وإنما تدافعه رحمة الله حيث اندفع، والبحر لا يعادي الزورق الذي يجري فوقه، ولكن يعادي المجذاف الذي يديره ههنا وههنا.
رجل كأنه قطعة من الأبد، لا أمس له يتعقبه، ولا غد له يترقبه، بل الحياة عنده يقظة طويلة، والموت نوم أطول. «والشيخ علي» متى أحس الجوع ولج الباب الذي يصيبه مفتوحا، فلا يقع على الناس إلا متطرئا، وهو مع ذلك لا يحط في الطعام ولكن يخط فيه خطا،
18
وما هو إلا أن يستقر شيء في جوفه مما يقيم صلبه حتى ينفر نفور الطائر، لا يرى إلا أنه قد استوفى حق طبيعته من خادم طبيعي، فلا جزاء ولا شكورا؛ ولهذا لا يبرح أبدا على الحد الذي يصلحه لنفسه فلا يتجاوزه، وأعجب ما يروعني من فضيلته أن هذا الحد عينه هو الذي لا يفسد ما بينه وبين الناس.
وهو إذا تكلم فإنما يترمرم
19
من طول السكوت؛ فإما أن يغمغم حروفا وأصواتا، وإما أن يلوث بعض كلمات غير مفهومة كأنه يسرها في أذن الدهر الذي لم يفهمه، ولكن لهذا الرجل كلمة في الشتاء وكلمة في الصيف؛ فأما الأولى: فأن يسأل دثارا يستدفع به أذى البرد، ولا معنى لكلمة «هات» عنده غير هذه الضرورة، وأما الثانية: فإن يهب الدثار لغيره، ولا معنى لكلمة «خذ» عنده غير هذا الاستغناء، على أنك واجد أكثر ما في هذا العالم من شر وفساد إنما يرتطم في هذين الحرفين: «هات، وخذ».
هذا هو «الشيخ علي»: رأيته فرأيت في برده ثورة على العالم الإنساني، وعرفته فأصبت في ضميره قطعة مجهولة من هذه المسكونة، واستجليت نفسه فإذا هو أفق فوق الأرض، وطالعته فكأني رأيت في جملته النقطة الأرضية التي يبدأ من ورائها ارتفاع السماء، وبلوته فإذا هو حصاة تحت ضرس الدنيا والناس هنالك يمضغون؛ فلم أملك أن غمست قلمي من نظراته في مجرى من أشعة الوحي، ووضعت الاعتبار من هذا الرجل وحقيقته ما عرفت من الناس وحقائقهم، فخرجت لي من المقابلة هذه الصفحات؛ ولذا كان القول في «المساكين» ما قال «الشيخ علي».
على أني إن كنت لم أحسن وصف الرجل أو كنت لم أبلغ في وصفه؛ فذلك لأن هذه الحقيقة في هذا القلم كالثمر الحلو في العود المر، والرجل مما أنضجه القدر وحده، وليس لنا من حقيقته الغامضة إلا الصفات التي تثبت أنها غامضة.
وهل في الحياة أشد غموضا من رجل يرى، أو كأنه يرى، أن كل نعمة لم ينلها فهي مصيبة لم تنله، وكل ما يعرفه من هذه الدنيا أنه يعرف كيف يتركها مطمئنا وعلى شفتيه من الابتسام تحية السماء لاستقباله، ومتى هو فارقها انكشف موته عن حياته، وصرحت هذه الحياة عن ضميره، وخلصت من هذا الضمير كلمة هي معنى الرجل الذي انطوى عليه، وكانت هذه الكلمة هي «الحمد لله»!
Halaman tidak diketahui