وترى أي عقل يعيش به؟ بل أي عقل وأي جنون ليس من أثرهما الخير والشر؟ إن أكبر من تنجبه الفلسفة ويخرجه الأدب؛ ليطوي عمره طيا وراء هذه الغاية البعيدة، وما حياة الفلاسفة إلا اختيار للموت، فهم يميتون في أنفسهم كل سبب إلى الشهوة، وكل داعية إلى اللذة، يحيون بالقسم الأعلى، وتبقى مادة الأرض فيهم كأنها أرض بور عارية المحاسر لا تخصب ولا تنبت. وهذا «الشيخ علي» كله أرض بور؛ فهو عصر برأسه من تاريخ الأخلاق، وعلى أي الوجوه اعتبرته رأيته كشيوخ الفلاسفة وحكماء الدنيا، يعيش في الناس بعقل غير العقل.
ولو تنفس به العمر فبلغ المائة وجاوز العصرين،
8
ما زاد كل عمله على أن يشبه نفسه؛ فهو حليم لنفسه غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس، والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم، كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء، فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه؛ فالناس كما هم، وهو كما هو، يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من أن يصيب بأذى، ويتحاشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء، ثم إن مسه الأذى من رقيع أو سقيط، أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم وكأن ألمه مرض طبيعي يعتريه، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا ...!
وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة، غير أن أمرهما مختلف جدا؛ فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو لأنها لم تظفر به!
وإني لأرى في اللغة كلمات لم تقع على معانيها، ولم تجتمع اللفظة منها بمدلولها؛ فكلمة السعادة تبحث عن معناها في الناس وأهوائهم وشهواتهم، ومعنى السعادة يبحث الناس عنه في هذه الكلمة وحدودها وحقائقها، وربما كان هذا المعنى بجملته ملقى تحت الشمس في زاوية من زوايا القرى، أو متفيئا ظل شجرة من شجر الجميز، أو نائما تحت سقف معروش من حطب القطن، أو جالسا يضحك في ندوة الحي، أو قائما يتأمل مجرى النهر، أو مضطجعا يقلب وجهه في السماء، أو هو الذي يسمى «الشيخ علي»!
وماذا في السعادة أهنأ من أن توقى شر هذه السعادة فلا تتطلع نفسك إليها، ولا ينالك إلا ما تحب أن ينالك، فأنت بعد وادع قار آمن في سربك، معافى في بدنك، خارج من سلطان ما بينك وبين الناس من خلق مستبد، أو رغبة ظالمة، أو صلة عاتية، ولا حكم عليك إلا لمالك الملك ... ولم يفتق الله لك من فنون اللذات ما ينغصه عليك، ولا ضرب منك مثلا، ولا نص لك عقابا، ولا جعلك مرآة عدو يصلح فيها نفسه،
9
ولا نصبك لمجاراة أو مباراة، وقد جنبك فضوح هذه الدنيا، والدنيا من السوء بحيث يفضح فيها بعض الخير ما لا يفضح بعض الشر.
ثم ماذا أنت طالب من السعادة إذا هانت الحياة فلم تضعف عن احتمالها، ولم ترمك بداء في مرض العيش إلا قمت له، ولم تحملك على أمر إلا تحملت عليه، وقويت على نفسك فلم تكذبك أملا، ولم تخدعك في باطل، ولم تجاذبك إلى مورد لا تصدر عنه إلا آثما أو نادما، وكنت من نعمة الله مخفا لا تحمل إلا رأسك، ولا تجوع إلا ببطنك،
Halaman tidak diketahui