كثيرا ما تقرأ أو تسمع أن بعض المؤلفين وعظماء الرجال ماتوا غرقا من إهمال ربان سفينة، أو سقط عليهم البيت من إهمال مهندس، أو نحو ذلك، كل هذا يدلنا على أن كل إنسان في أمة يتعدى عمله غيره من الناس، وقد يصل أثر ذلك إلى حياتهم، وهذا يجعلنا نشعر بالمسئولية الملقاة على عاتقنا، ويوجب علينا أن نخرج العمل الذى عهد إلينا كأحسن ما نستطيع، كما يوجب علينا ألا نحتقر من يعمل غير عملنا، كل يؤدي واجبا، وكل لا بد من عمله لسير الأمة، فالمؤلف إنما يستطيع أن يتفرغ للتأليف لأن غيره من الناس يشتغل له في إعداد مأكله ومشربه وملبسه، وأنت إنما تتعلم وتتفرغ لتحصيل علمك لأن غيرك قد كفاك مؤونة السعي لتحصيل العيش، وهكذا الناس، كل خادم وكل مخدوم، وخير الناس أنفعهم للناس.
ولا يصح أن يسمح بالتعاون بين الأفراد أو الشركات إذا كان في ذلك ضرر بالأمة، كما يحدث في الإحتكار، فلو اتحدت شركات المياه والنور على رفع السعر حتى أرهقوا الشعب كان هذا ضربا من التعاون بين هذه الشركات، ولكنه تعاون ضار لا ترضى عنه الأخلاق، إنما ترضى الأخلاق عن أنواع من التعاون تزيد في رقي الأمة، كالتعاون على حماية العمال من أرباب رءوس الأموال، وكجمعيات التأليف، ونوادي الفنون والألعاب الرياضية، وجميعات البر والإحسان، وجمعيات التعليم، فإن التعاون بين هذه الجمعيات والنقابات يزيد في سعادة الأمة ويعين على نهوضها. (12-2) التعاون بين الأمم
هناك نوع آخر من التعاون هو التعاون بين الأمم، وذلك على ضروب شتى.
من ذلك التعاون التجاري، فخيرات هذه الأرض قد وزعت على العالم، فالبن والقطن والأرز والفاكهة والفضة والذهب والحديد ونحوها ليست مجموعة في بقعة واحدة، وإنما يكثر في أمة بعض الأشياء ويقل البعض الآخر وهكذا، فتحتاج الأمم إلى التعاون وتبادل ما بينهم من الخيرات، ولو أن كل أمة قصرت حياتها على ما عندها من خيرات لا تخمت في بعض الأنواع، وأحست بالجدب والفقر في البعض الآخر، ولم تستطع - على العموم - أن تعيش عيشة سعيدة، فبهذا التبادل تتعاون الأمم على السعادة، ولذلك كان من السخافة أن تعمد أمة إلى إفناء أمة أخرى إذ يكون مثلها مثل تاجر يعمد إلى إحراق منزل عميله.
كذلك تتعاون الأمم في نشر الحضارة، ولعل أوضح مثل لذلك اليابان، فقد رأت حاجتها إلى اقتباس المدنية الغربية فأرسلت البعثات إلى الممالك المختلفة لتدرس نظمها، وكانت النتيجة أن نظمت بحريتها على نمط البحرية الإنجليزية، وجيشها على النمط الألماني واقتسبت آلاتها من النمط الأمريكي أحيانا والإنجليزي أحيانا وهكذا.
وكذلك تتعاون الأمم في الإختراع والإستكشاف فالإنجليز أمدوا العالم بالآلات البخارية، وأمريكا وصلت إلى درجة عظيمة في استعمال الكهرباء، وعنها أخذ العالم، والكيمائيون الألمان اخترعوا كثيرا من عجائب الكيمياء، والفرنسيون استكشفوا كثيرا من ميكروبات الأمراض، ونجحوا في وصف علاجها، ولما اتجهت الأذهان لترقية الطيران تسابقت الأمم المختلفة، كل يدخل عليه نوعا من التحسين، وكل يريد الفوز والغلبة، وكل يستفيد مما يدخله الآخر من الإصلاح.
كذلك الشأن في العلوم والآداب والفنون، يظهر فيلسوف كبير في أمة فتنتفع الأمم الأخرى بعلمه، وتظهر رواية جميلة أو قطعة موسيقية ممتعة فتمثل أو توقع في الممالك الأخرى، حتى يكاد يكون العالم أو الأديب أو الفنان عالميا، نتاجه للأمم كلها لا لأمته.
وتبادل الآراء نوع من التعاون، فالأمة ترسل بعثاتها إلى الأمة الأخرى تدرس آراءها وتستفيد منها، كالذي ترى في المؤتمرات، تعقد لمختلف الموضوعات، كمؤتمر التربية، ومؤتمر التاريخ، ومؤتمر الجغرافيا، ونحو ذلك، يجتمعون من عدة أمم فيتبادلون الأفكار، ويستفيد كل مما وصل إليه بحث الآخرين.
وتتعاون الأمم على ما يصيب إحداها من الكوارث، فزلزال مسينا، وثوران البراكين، ونحو ذلك يحل بالأمم أعظم المصائب، فتتعاون الأمم على درء الشر، وإغاثة المنكوبين، بما يتبرعون به من مال ورجال.
ومن مظاهر هذا التعاون ما كان بين الحكومات، فالمعاهدات بين الأمم في تبادل البريد والتلغرافات ونحو ذلك أثر من آثاره، وكذلك تعاقد حكومات الأمم المختلفة على منع تجارة الرقيق، ومحاولتهم الآن التعاون على نقص التسليح، والعمل على منع الحرب، وإحلال عصبة الأمم محل تحكيم السلاح، وإن كان ذلك مما لا يزال أملا يرتجى. (13) خلاصة
Halaman tidak diketahui