4
على من يشرب الماء مثلجا في أيام الحر، وقال: «قد انتزع الترف من القلوب ما كان بها من موارد الشفقة وأسباب العطف حتى صارت أشد بردا وقسوة من الثلج والجليد» وبالغ بعض الزهاد فلم يكتف بقمع الشهوات بل تعداها إلى تعذيب النفس بالقيام في الشمس في أشد ساعات الحر، والتمرغ على الرخام في الشتاء، وهكذا، وهذا مذهب أكثر المعتنقين له من الناقمين على الحياة، المتشائمين من كل شيء في الوجود، المصابين بفقر الدم، الذين ضعفت شهواتهم لضعف جسمهم، وقد يرى هذا الرأي أيضا من قويت صحته وكمل جسمه، واشتدت شهواته، ولكن كانت إرادته أشد وسلطانه على نفسه أقوى، وأقوى ما يكون ذلك إذا أتى من ناحية العقيدة الدينية.
والزاهدون أنواع: فمنهم من يرفض أن ينعم في الحياة بالمأكل الشهي ونحوه لأنه يرى أن الإستمرار في طلب اللذائذ يسبب ألما، فتصبح النفس شرهة، أطماعها كثيرة، وآمالها واسعة، وكلما نالت منها الكثير طمعت فيما هو أكثر منه، ثم هي تتألم الآلام الشديدة لما حرمت، وتتجرع مع ما تنال غصصا من الآلام، أضف إلى ذلك أن كثرة التمتع باللذة يفقدها قيمتها، فمن يأكل كل يوم طعاما شهيا يصبح بعد مدة وهذا النوع من الأكل عنده عادي، حتى تكون مقدار لذته منه تعادل لذة من قنع بالقليل، يرى هؤلاء أن شعور الإنسان بأنه قادر على حرمان نفسه يرفعه فوق حوادث الزمان، ويجعله يرى أن لا قدرة للحوادث ولا للدهر على إخضاعه، وهذا الشعور يحرر الإنسان من ربقة الخوف - وهو شعور فيه من اللذة ما ليس في الملذات الجسمية - فهم في الحقيقة يفرون من لذة للذة أخرى أكبر منها، هي لذة الراحة والطمأنينة وعلو النفس.
هؤلاء نظرهم شخصي أكثر منه اجتماعيا، فهم يبغون لذة أنفسهم، غاية الأمر أنهم وجدوها في الراحة وعدم الإنغماس في الشهوات.
ومن الزاهدين نوع آخر أرقى من هؤلاء، زهدوا في اللذائذ لأن ذلك وسيلة إلى إسعاد الناس وراحتهم، كما فعل عمر بن الخطاب، لم يشأ أن يمتع نفسه بالملذات لأنه رأى أنه إن فعل ذلك توسع الولاة ومن بيدهم أمر الأمة في البذخ والنعيم حتى يرهقوا الرعية، فزهد ليسعد الناس، ومن هذا الصنف كثير من المصلحين والعلماء الباحثين، يهجرون راحتهم ليستكشفوا ما يوفر الراحة على الناس، وهؤلاء - أيضا - في الحقيقة لم يضحوا بلذتهم، بل هم من صنف راق، يجدون - في شعورهم بأنهم مصدر لإسعاد الناس - لذة قلما تعادلها لذة.
ومن الزهاد صنف يتزهد تدينا، يتقربون إلى الله بالإمتناع عن التمتع بملذات الحياة، ولهؤلاء نقول: أن الله تعالى شرع الشرائع لإسعاد الناس، وقد رضى عمن اتبعها لأنه عمل لإسعادهم، فمن هجر لذته هو في عمل صالح يرضي الله - وبعبارة أخرى يسعد الناس - كان عمله مقبولا، وكان من الصنف الثاني، ولكن من ظن أن الله يرضى عن الزهد لأنه زهد فقد أخطأ، لأنه تعالى لم يجعل تعذيب النفوس سبيلا لرضاه، وماذا ينال الله والناس ممن انقطع للعبادة وزهد في الحياة! مدح رجل عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بأنه يقوم الليل ويصوم النهار وينقطع للعبادة فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «فمن يقوم بشأنه»؟ قالوا: كلنا قال: «كلكم خير منه»، وحقا ليس يصح لأحد أن يستحل أن يأكل من عمل الناس ولا يعمل هو في الحياة للناس شيئا، إنما يرضى الله عمن هجر لذته ليسعد قومه، وليس من العقل تحمل الألم لأنه ألم. (7-3) الإفراط في الشهوات
ومن الناس من يرى - على عكس هؤلاء الزهاد - أن يطلق لنفسه العنان، ويمكنها من كل ملذات الحياة، يرون أن الإنسان في هذه الحياة إنما خلق ليتنعم، ولم يمنح العقل إلا ليبحث له عن وسائل النعيم، فهو لذلك يعب اللذائذ عبا، وينهمك فيها ما استطاع، وهذا ضار بالفرد وبالمجموع معا، فلو أبحنا لكل فرد أن يتلذذ كما يشاء ما انتظم شأن مجتمع، ولتعارضت شهوات الأفراد، وكانت الفوضى المطلقة، وإن جمعية أفرادها ليسوا أعفاء - أعنى أنه لا تحكمهم إلا شهواتهم الجسمية - لتحمل معها بذور الإنحلال والإنحطاط. (7-4) الاعتدال
Halaman tidak diketahui