وسعادة الجميع يجب أن تكون مطمح نظر كل إنسان، لا سعادته هو وحده - والفضائل إنما عدت فضائل لأنها تنتج للناس لذة أكثر من الآلام - فهي فضائل ولو آلمت بعض الأفراد، بل ولو آلمت العامل نفسه، وكذلك كانت الرذائل رذائل لأن آلامها للناس ترجح لذائذها، فهي رذائل ولو أفادت العامل نفسه.
فالصدق - مثلا - إنما كان فضيلة لأنه يزيد سعادة المجتمع وبه يرقى ويبقى، ذلك لأننا محتاجون في الحياة إلى طبيب يرشدنا إلى ما فيه حفظ الصحة، وإلى مهندسين نعتمد على أقوالهم في بناء الجسور ونحوها، وإلى كيمائي يبين لنا خواص الأجسام، وإلى مدرس يثقف عقول المتعلمين بما ينفعهم، ولولا الصدق ما كان لنا أن نثق بأقوال هؤلاء ولا ننتفع بآرائهم، فلما رأينا ما ينجم عنه من السعادة للمجتمع حكمنا بأنه فضيلة، وأوجبنا على الأفراد أن يصدقوا، وإن كان في الصدق ألم لبعض الناس.
ورشوة القاضي - مثلا - إنما كانت رذيلة لأن القاضي إذا ارتشى أطلق سراح المجرم، وهذا يشجعه هو وأمثاله على ارتكاب الجرائم، لاعتقاده أنه يستطيع الفرار من العقوبة بالرشوة، وبذلك تكثر المظالم، ويضيع كثير من الحقوق. وفي هذا آلام كثيرة للمجتمع، فحرمت وإن انتفع بها القاضي المرتشى.
وهكذا الشأن في جميع الأعمال، فإن أردت الحكم على عمل بأنه خير أو شر فابحث عما يجلبه من اللذائذ والآلام للمجتمع، مع بعد النظر، ودقة البحث، وتجردك من الهوى ومن تحيزك لنفسك، ثم وازن بين لذائذه وآلامه.
ووزن الأعمال بهذا الميزان بطيء، لأنه يتطلب حسابا دقيقا، ونظرا بعيدا، إلا أن النتيجة موثوق بصحتها، على أن مما يسهل عملية الوزن والمقياس أن أصول الفضائل والرذائل قد وزنت بهذا الميزان وحكم عليها بالخير أو الشر مثل الكرم فضيلة، والبخل رذيلة، والصدق خير، والكذب شر، فإن أردنا أن نحكم على جزئية من جزئياتها فلنرجع إلى أصل من تلك الأصول التي حكم عليها، كأن يكون العمل من قبيل الصدق أو الكذب، ولا حاجة حينئذ إلى هذا المقياس، وإنما نحتاج إليه فيما لا يرجع إلى تلك الأصول، كالعادات التي اختلف الناس في استحسانها واستقباحها، وكالمسائل التي لا ترجع إلى هذه الأصول، فإن أداك بحثك الدقيق إلى أن آلام العمل أكثر من لذائذه فاحكم بشره وإن حكم الناس عليه بالخير، وإن رأيت من الأعمال ما لا ضرر فيه أو ما آلامه أقل من لذائذه فاحكم بأنه خير وإن عده الناس جريمة، ويسمى هذا المذهب «مذهب المنفعة» ومن أكبر دعاته الفيلسوف الإنجليزي بنتام (1748-1832م)
6
وجون ستوارت ميل (1806-1873م).
7
واللذة التي يريدها أصحاب مذهب المنفعة تشمل اللذات الحسية والمعنوية، الجسمية والعقلية، بل قد صرحوا بأن اللذات النفسية أفضل من اللذات الجسمية، وكلما رقى الإنسان طمح إلى أشرف اللذات وأرقاها، فكما أن سعادة الإنسان تختلف عن سعادة الحيوان كذلك تختلف سعادة العاقل عن سعادة الجاهل، واللذائذ الوضيعة سهلة المنال ولذلك كان حصول الجاهل على لذاته أيسر:
وإذا كانت النفوس كبارا
Halaman tidak diketahui