وقال أصحاب هذا المذهب: إن كل إنسان يجب أن يبحث وراء لذائذه هو وسعادته، ويعمل ما يوصله إلى ذلك، والعمل الذي يوصل إلى تلك الغاية أو يقربه منها يكون خيرا.
ومن أكبر زعماء هذا المذهب في العصور القديمة «أبيقور»
3
ويرى أن ليست تقاس الأعمال باللذات والآلام الوقتية فحسب، بل الواجب أن يرمي الإنسان بنظره على جميع حياته، ويحسب ما يستتبعه العمل من لذة وألم في الحياة، فشرب الدواء المر يسبب ألما ولكن لأنه قد يذهب ألما أكبر منه - وهو ألم المرض - يكون خيرا، والعاقل ينبغي أن يرفض لذة حالة للحصول على لذة أكبر منها مؤجلة، ومن أجل هذا فضل «أبيقور» اللذة العقلية على اللذة الجسمية، فإن اللذائذ الجسمية سريعة الزوال لا تعد شيئا إذا قيست بتلك اللذة الباقية - لذة العقل وتحصيل العلم - التي بها تطمئن النفس، ومنها يتخذ الإنسان عدة لحوادث الدهر، وصروف الزمان.
وقال: إن خير اللذائذ هدو البال وطمأنينة النفس، وأن سعادة الإنسان تعتمد على حالته النفسية أكثر مما تعتمد على الظروف الخارجية، فليس المال الكثير والجاه الكبير ونحو ذلك يعين على السعادة أكثر مما تعين صفات الإنسان الخلقية والعقلية، ومع ذلك فقد قال «أبيقور»: إن اللذائذ الجسمية الطاهرة ليست محرمة، ولا مرذولة، ولا ضرر على العاقل من أخذ حظه منها من غير إفراط.
وعلى هذا المذهب إنما كانت الفضائل فضائل لأنها تسبب للعامل لذة كبرى، فالعفة مثلا فضيلة، والفجور رذيلة، لأنه لو دقق في حساب ما يجده العفيف من اللذة في رضائه عن نفسه، وبعده عن الآلام التي ينتجها الفجور، واحترام الناس له، وثقتهم به، لوجد أنه يرجح ما يجده الفاجر من لذة وقتية، يتبعها ألم النفس، وفقد الثقة، وتعريض الصحة والمال والشرف للضياع، وهكذا القول في الصدق والكذب، والأمانة والخيانة.
وقد غلط بعض الناس ففهموا أن مذهب «أبيقور» يدعو إلى الإنهماك في اللذات الجسمية والجرى وراء الشهوات، حتى أطلقوا كلمة «أبيقوري» على الفاجر المنهمك في شهواته، مع أن تعاليم أبيقور بعيدة عن ذلك، وقد ندد هو نفسه في بعض كتبه بمن يفهم من قوله هذا الفهم السقيم. [وفي العصور الحديثة قال بهذا المذهب «هوبز» الفيلسوف الإنجليزي (1588-1679م) وبنى مذهبه الأخلاقي على أبحاث نفسية، فكان يرى أن الإنسان مخلوق وفي طبيعته حبه نفسه، والعمل لإسعادها، وأن أساس أعماله الأثرة، (حب الذات) وليس يعمل عملا إلا من أجل نفسه، وليس حبه جاره أو صديقه إلا ضربا خفيا من ضروب حب النفس. نعم إنه قد يعمل الخير لغيره، ولكن الباعث الحقيقي له على عمله هو حبه نفسه، وطلبه اللذة لها أو دفع الألم عنها، وكل ما يسمى «إيثارا» أو نفعا للناس ليس - بعد الفحص الدقيق - إلا نتيجة رغبة في منفعة شخصية يراد تحصيلها عاجلا أو آجلا، ومن أجل هذا قال: يجب أن نساير طبيعة الإنسان فلا نكلفه ما ليس من طبعه، بل نأمره أن يأتي من الأعمال ما فيه أكبر لذه له ويتجنب ما فيه أكبر ألم له].
وعيب هذا المذهب (مذهب السعادة الشخصية) أنه يجعل صاحبه أثرا (أنانيا) لا ينظر في أعماله إلا لنفسه، مات الناس أو عاشوا. انتفعوا أو تضرروا ، إذا رغب في وصول منفعة للناس فإنما ذلك لأنها تجر المنفعة إليه، وإذا تألم من شر نال أحدا فإنما يكون لأن جزءا من الشر يناله هو، وفي الناس في كل زمان قوم يسيرون في حياتهم العملية على هذا المذهب وإن لم يسمعوا به ولم يعرفوا شيئا عنه، تراهم في كل طبقة من طبقات الناس، في الأغنياء والصناع والعمال والموظفين والتجار، أولئك لا يلاحظون في أعمالهم إلا أنفسهم، ينظرون إلى غيرهم من الناس كما ينظرون إلى متاع يستخدمونه لمصلحتهم، عندهم الإنسانية والوطنية والتضحية ونحوها سخافات، إنما الفضيلة في نظرهم أن يبحثوا وراء لذتهم وينشدوا مع الشاعر:
إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
وقد رد كثير من العلماء على «هوبز» فقالوا: إن في الإنسان عاطفة حب الناس بجانب عاطفة حبه النفس، وإن نفوسنا تهتز عطفا على الناس، ورحمة بالمنكوبين، وغضبا على المجرمين، ويحن الوالدان على أولادهم حنينا قد يصل إلى حد أن يتمنوا أن يفدوهم بأنفسهم، فليس من الصواب - إذن - أن يكون مقياس الأخلاق لذة العامل وحده، وأن تكليفنا له بمراعاة الناس والعمل لخيرهم لا ينافي طبيعته.
Halaman tidak diketahui