فإذا ارتقى الناس عن هذا الدور شعر الفرد بأنه - وإن كان عضوا في مجتمع - فله شخصيته، وأن نفسه مستقلة عن قومه، وأن له مصالح شخصية كما أن لقومه مصالح، وأن عقله من الإستقلال بحيث يستطيع ألا يخضع للعرف خضوعا أعمى، بل في قدرته أن يزن الأعمال فيحكم عليها بالخير أو الشر وإن خالف العرف.
نرى هذا في التاريخ دائما، فعند نهوض كل قوم وأخذهم بحظ كبير من الرقي يظهر أفراد يخرجون على التقاليد الموروثة المتعارفة إذا رأوها ضارة، ويزنون الأشياء وزنا جديدا، فيعلنون استحسانهم لأشياء يستهجنها عرفهم، ويستقبحون أشياء يستحسنها العرف؛ وينتشر رأيهم شيئا فشيئا حتى يميل الناس إليه، ويقتنعوا به، وبهذا تنكسر قوة العرف. حصل هذا في عصر السوفسطائيين في اليونان، وفي عصر النهضة في روما، وفي أيام الثورة الفرنسية في فرنسا وهكذا.
في هذا الدور يشعر الإنسان أن العرف غير صالح لأن يكون مقياسا، وأن له من القوة ما يمكنه من تقويم الأشياء والحكم عليها، ولكن يتساءل بم يقومها؟ كيف يعرف الخير والشر؟ ما الذي يضعه محل العرف ليعرف الحق من الباطل؟ وعند ذاك يأتي دور البحث العلمي. (3-3) الوجدان
أجاب قوم عن هذه الأسئلة المتقدمة بأن في كل إنسان قوة غريزية يميز بها بين الحق والباطل، فكل إنسان إذا عرض عليه عمل تلهمه هذه القوة أنه خير أو شر، وهذه القوة منحناها لنميز بها بين الخير والشر كما منحنا العين لنبصر بها، والأذن لنسمع بها، والحكم الأخلاقي يعتمد على هذه القوة فيصدر بالإستحسان أو الإستقباح، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن أساس هذا الحكم هو «الوجدان» ويعنون به شعور الإنسان الطبيعي بالإرتياح من العمل أو النفور منه كالإرتياح والنفور الذي يشعر به الإنسان عند رؤيته شيئا جميلا أو قبيحا، فعندما توسوس له نفسه بكذب أو بسرقة يشعر باشمئزاز طبيعي من إتيان ذلك فيحكم عليه بأنه شر، وكذلك عندما يسمع خبرا باغاثة ملهوف أو إحسان إلى فقير أو عدل في حكم يشعر بارتياح طبيعي فيحكم على ذلك بأنه خير.
وقد تصاب هذ القوة الوجدانية بمرض فترى الخير شرا والشر خيرا كما تصاب كل حاسة بالمرض، وكما تخطئ القوة العقلية، فكما أنا لو أعطينا عددا من التلاميذ مسائل حسابية فبعضهم يخطئ في حلها وبعضهم يصيب ولكنا نعرف أن هؤلاء أصابوا وهؤلاء أخطؤا كذلك يختلف الناس في صحة الوجدان ومرضه، فبعضهم يحكم بالشر على ما يحكم عليه الآخر بالخير، ويمكن أن نعرف المخطئ من المصيب، وسيأتي توضيح ذلك عند الكلام على مذهب اللقانة. (3-4) العقل والإستدلال
ويرى علماء آخرون أن ليس في الإنسان قوة طبيعية يحكم بها على الأعمال، إنما نحكم عليها بالعقل والإستدلال، فليس في الإنسان حاسة غريزية يدرك بها الخير والشر، ولكن يحكم عليها بمقتضى تجاربه، فالناس عملوا أعمالا، ولاحظوا ما ينتج عنها، فرأوا نتائجها حسنة فحكموا بخيريتها، وعملوا أعمالا رأوا نتائجها سيئة فحكموا عليها بالشر، وليست القوة الأخلاقية التي نعرف بها الخير والشر إلا عقلنا وتجاربنا، واستمرار الأمة في تجاربها يفضي بها إلى تعديل آرائها في الأشياء، والسبب في تغير آراء الأمم والأفراد في الحكم على الأشياء هو اتساع مداركها بكثرة تجاربها وملاحظاتها واستدلالها، وسيتضح ذلك عند الكلام على المذاهب الأخلاقية.
من هذا ترى أن الحكم الأخلاقي تدرج بتدرج الناس في الرقي، فكانوا أول أمرهم لا مقياس لهم إلا العرف ثم فهموا أن العرف لا يصح أن يكون مقياسا، فجاء بعد ذلك دور البحث والتفكير العلمي.
وكذلك ترى أن العرف - أولا - كان هو المقياس ولكنه مقياس خاص بالأمة وحدها، إذ كل أمة لها عرفها، فلما جاء دور البحث العلمي أصبح الحكم الأخلاقي ينبني على أسس عالمية، وبعبارة أخرى أصبح ينبني على مبادئ عامة تصلح لكل أمة في كل عصر، وسنوضح تلك المبادىء والمذاهب المشهور التي أدى إليها البحث في الفصل التالي. (4) تربية الحكم الأخلاقي
قوة الحكم الأخلاقي ترقى برقي الإنسان، فهو يولد وعنده جرثومة الحكم الأخلاقي، تولد معه حسب قانون الوراثة.
ثم ينشأ في أسرته فيراهم يمدحون أشياء ويذمون أخرى ويكافئون على أعمال ويعاقبون على أخرى، فينمو عنده الحكم الأخلاقي بذلك، ويتبع أسرته في مدحها وذمها، ويستحسن من الأشياء ما مدح عليه، ويستهجن ما ذم من أجله، ثم إذا نما شعر بأنه مضطر أن يتبادل مع إخوته وأخواته الأخذ والعطاء، فيوجد عنده الشعور بضرورة تبادل المنافع، فهو يعطيهم مما يناله ليعطوه مما ينالون، فيرقى عنده بذلك الحكم الأخلاقي.
Halaman tidak diketahui