ولكن هي، هل عرفته يا ترى؟ .. وإذا لم تكن عرفته، فهل ما تزال تذكر التاجر السعيد إسفينيس؟ .. الذي أنقذت حياته من الموت المحقق، ومن قالت له والقلب خافق والدموع ذوارف: «إلى اللقاء»؟ ومن حنت إليه في منفاه فبعثت إليه برسالة كمن الحب في سطورها كمون النار في الحجر؟ .. أما يزال قلبها يخفق خفقته الأولى في مقصورة السفينة الفرعونية؟ .. رباه .. ما له يحس أنه مقبل على سعادة لا حد لها؟ .. هل يصدقه قلبه أم يخدعه؟ وتمثل للملك منظرها البائس حين دفع بها الثائرون إليه، فانتفض جسمه القوي وسرت فيه قشعريرة، وتساءل حزينا والقوم الغاضبون من حولها يبصقون عليها ويسبونها ويلعنون أباها .. وإنه ليذكر ما كان يلوح في وجهها من الغضب والحنق والكبرياء، فهل يسكت غضبها إذا علمت أنها أسيرة إسفينيس، وأحس قلقا لم يساوره في أحرج المواقف، وكان ركبه بلغ الشاطئ فهبط إلى السفينة الفرعونية، ودعا إليه الضابط الذي عهد إليه بالأميرة وسأله: كيف حال الأميرة؟ - وضعت يا مولاي في مخدع خاص وجيء لها بثياب جديدة وقدم لها الطعام، ولكنها رفضت أن تمسه، وعاملت الجنود معاملة تنطوي على الاحتقار ودعتهم بالعبيد، ولكنها عوملت أحسن معاملة كأمر جلالة الملك.
فبدا على الملك عدم الارتياح، وسار بخطوات هادئة إلى المخدع، ففتح الباب أحد الحراس ورده بعد دخول الملك، وكان المخدع صغيرا أنيقا يضيئه مصباح كبير يتدلى من سقفه، وإلى يمين المدخل جلست الأميرة على أريكة وثيرة في ثوب بسيط من الكتان وقد مشطت شعرها الذي بعثره الثائرون وأرسلته ضفيرة كبيرة، فنظر إليها مبتسما فرآها تنظر إليه في دهشة وغرابة وهي لا تصدق عينيها، وبدت له كأنما هي في حيرة وشك، فحياها قائلا: طاب مساؤك أيتها الأميرة.
فلم تجبه، ولكنها ازدادت بسماع صوته حيرة وشكا، وكان الشاب يطيل النظر إليها في شغف وافتتان، فسألها: هل يعوزك شيء؟
فتفرست في وجهه، ثم صعدت بصرها إلى خوذته، وخفضته إلى درعه وسألته: من أنت؟ - أدعى أحمس فرعون مصر؟
فلاح الإنكار في نظرة عينيها، وأراد أن يزيدها حيرة فخلع خوذته ووضعها على خوان وهو يقول لنفسه إنها لا تستطيع أن تصدق عينيها، ورآها تنظر إلى شعره المجعد بغرابة، فقال كالداهش: ما لك تنظرين إلي هكذا كأنك تعرفين لي شبيها ؟
فلم تدر ما تقول ولم تحر جوابا، واشتاق إلى سماع صوتها والتماس حنانها فقال لها: هبي أنني أجبتك أني أدعى إسفينيس، فهل تردين علي؟
وما كادت تسمع اسم إسفينيس حتى قامت واقفة وصاحت به: إذن أنت إسفينيس!
فدنا منها خطوة وحدجها بنظرة حنان، وأمسك بمعصمها وهو يقول: أنا إسفينيس أيتها الأميرة أمنريدس.
فجذبت معصمها بشدة وقالت: إني لا أفهم شيئا.
فابتسم أحمس وقال برقة: ماذا تعني الأسماء؟ .. كنت بالأمس أدعى إسفينيس وأدعى اليوم أحمس، ولكني شخص واحد وقلب واحد! - يا للغرابة .. كيف تقول أنت شخص واحد؟ .. كنت تاجرا تبيع الحلي والأقزام، وأنت اليوم تقاتل وترتدي ثياب الملوك. - ولم لا؟ .. كنت بالأمس أجوس خلال طيبة متخفيا، وأنا اليوم أقود قومي لتحرير بلدي واسترداد عرشي المسلوب.
Halaman tidak diketahui