لازم الملك الصمت، وكان يصغي باهتمام ويكتم عواطفه بالنظر إلى أسفل، وقد حاول الأمير «كاموس» استطلاع وجهه فلم يتمكن، وكانت ميوله مع القائد بيبي فقال بعنف: مولاي .. إن أبوفيس ينظر بجشع إلى عزتنا القومية، ويأبى إلا أن يذل الجنوب كما أذل الشمال، ولكن الجنوب الذي لم يرض المذلة وعدوه في أوج قوته لن يرضاها الآن .. فمن يقول إننا نفرط فيما اشتد أسلافنا في صونه ورعايته؟
وكان أوسر آمون رئيس الوزراء أدنى القوم إلى الاعتدال، وكانت سياسته موجهة دائما إلى تفادي غضب الرعاة أو التعرض لقواتهم الهمجية لكي يتفرغ إلى إنماء ثروة الجنوب واستثمار موارد النوبة والصحراء الشرقية وتدريب جيش قوي لا يغلب، وقد خشي مغبة اندفاع ولي العهد وقائد الجيش، فقال موجها كلامه إلى رجال المملكة: اذكروا يا سادة أن الرعاة قوم نهب وسلب، ولئن حكموا مصر مائتي عام فهم لا يزالون يخطف أبصارهم الذهب، ويستذل نفوسهم ويشغل هممهم عن شريف المقاصد.
فهز القائد بيبي رأسه ذا الخوذة اللامعة وقال: يا صاحب العظمة، لقد عاصرنا القوم عهدا كافيا لنعرف نفوسهم، فهم أناس إذا رغبوا في شيء طلبوه بلسان صريح دون التوسط إليه بالحيلة والمداراة، وقد كانوا يطلبون الذهب فيحمل إليهم، أما اليوم فهم يطلبون حريتنا.
فقال الوزير: ينبغي التريث الآن حتى يكمل جيشنا .
فقال القائد: إن جيشنا بحالته الراهنة قادر على صد العدو.
ونظر الأمير كاموس إلى أبيه فوجده ما يزال يطرق إلى أسفل فقال بحماس: ما جدوى الكلام؟ .. قد يعوز جيشنا بعض الرجال وبعض المعدات، ولكن أبوفيس لا ينتظر حتى نستكمل عدتنا، وهو يعرض علينا مطالب لو ارتضيناها حكمنا على أنفسنا بالانهيار والزوال، وليس في الجنوب رجل واحد يفضل التسليم على الموت، فلنرفض هذه المطالب بإباء ونرفع رءوسنا أمام أولئك الرعاة ذوي اللحى المسترسلة والبشرة البيضاء التي لن تطهرها الشمس!
وتأثر القوم بحماس الأمير الشاب، وبدا على وجوههم التحفز والغضب وكأنما سئموا الكلام ورغبوا في اتخاذ قرار حاسم، ورفع الملك رأسه ورنا إلى ولي عهده، وسأل بلهجته الجليلة السامية قائلا: أترى أن نرفض مطالب أبوفيس أيها الأمير؟
فقال كاموس بثقة وعنف: بكل حزم وإباء يا مولاي. - وإذا جر الرفض إلى الحرب؟
فقال كاموس: نحارب يا مولاي.
وقال القائد بيبي بحماس لا يقل عن حماس الأمير: نحارب حتى نصد العدو عن حدودنا، وإذا شاء مولانا حاربنا حتى نحرر الشمال ونجلي عن أرض النيل آخر رجل من الرعاة البيض ذوي اللحى الطويلة القذرة.
Halaman tidak diketahui