وابتعد غاضبا وهو يوسع الخطى، تاركا الشاب في ذهول وحيرة، ولحقه لاتو وهو يقول: إنه لمجنون بلا ريب. - ليس مجنونا يا لاتو .. ولكن لماذا يدعوني عبد الرعاة؟ - إنه لدعاء يثير الضحك. - نعم .. نعم .. ولكن هبنا صنائع الرعاة، فكيف تؤاتيه شجاعته فيتحدانا؟ .. إنه لشاب جسور حقا يا لاتو، ويدل سلوكه معنا على أن عشرة أعوام من حكم الرعاة الخانق لم تستطع أن تستأصل الغضب من النفوس الكريمة.
واستأنفا المسير حتى جذب انتباههما ضجيج عال، فنظرا يمنة فرأيا بناء كبيرا ذا مدخل صغير في أعلى حائطه كوات ضيقة، يدخل إليه جماعات ويخرج منه جماعات، فسأل الشاب صاحبه: ما هذا البناء؟
فقال لاتو: هذه حانة. - هلم نشاهدها.
فابتسم لاتو وقال: هلم!
5
ودخلا الحانة معا، فوجدا نفسيهما في مكان متسع، حوائطه عالية، يتدلى من سقفه مصباح يعلوه الغبار، وفي وسطه وضعت الدنان، يحيط بها سور طوله ذراعان وعرضه ذراع، اصطفت عليه أكواب الفخار وأحاط به الشاربون، ويقف في دائرته صاحب الحانة فيملأ الأقداح للملتفين به، أو يرسلها مع ساق يافع إلى الجلوس في الأركان على أرض الحان، وكان لا يكاد يرفع رأسه عن دنانه، فإذا آذاه أحد الشاربين بنكتة أو دعابة انتهره بخشونة وسب وقذف، فجال الرجلان ببصرهما في المكان، وأراد إسفينيس أن يزحم الوقوف حول الساقي، فأخذ صاحبه من يده، وشق بمنكبيه طريقا إلى السور حتى ارتقاه وسط الأعين المحدقة فيهما دهشة وإنكارا، وكان أحس شيئا من التعب، فقال للخمار مسترسلا: أيها الرجل الطيب هل نجد عندك مقعدين؟
فازداد إنكار من حوله للهجته وغرابة طلبه، أما الخمار فرد عليه دون أن يعيره التفاتا: عفوا أيها الأمير .. إن رواد حانتي ممن يقنعون باقتعاد الغبراء.
وضحك منه ومن صاحبه قوم السكارى، ودنا منهما رجل قصير القامة غليظ الوجه والرقبة عظيم الكرش، فانحنى لهما في هزء، وقال بتلعثم الثمل: أيها السيدان، إني أنزل لكما عن كرشي تقتعدانه.
وأدرك إسفينيس خطأه الذي أساء به إلى نفسه وإلى صاحبه، فقال يصلح منه: إننا نتقبل هديتك شاكرين، ولكن كيف يمكن أن تشرب خمرك المعتقة بغير هذا الكرش؟
وسر السكارى بسؤال الشاب، وصاح بعضهم بالرجل الأكرش: أجب يا طونا .. أجب .. كيف تشرب أقداحك إذا نزلت للسيدين عن كرشك؟
Halaman tidak diketahui