وكان الكاهن قد هم أن يقاطع القائد من فرط انزعاجه، ولكن القائد لم يمكنه، فصمت صمتا ثقيلا، وجمد جمودا مطلقا، فكأنه فقد حواسه جميعا، وأدرك بيبي ما يعانيه الرجل من الذهول والألم، فقال: إني أستودعك الرب يا صاحب القداسة، مطمئنا إلى أنك ستقوم بواجبك كاملا نحو المخلفات العزيزة المقدسة.
وتحول القائد عنه إلى الهودج، وانحنى إجلالا حتى لثم غطاءه وأدى له التحية العسكرية، ثم تقهقر إلى الوراء وقد حجبت مدامعه الهودج عن عينيه، حتى بلغ السلم المؤدي إلى بهو الأعمدة، فأدار ظهره وسار مسرعا لا يلوي على شيء إلى خارج المعبد، وشعر بأنه قد آن له أن يلحق بضباطه وجنوده، ليهجم معهم الهجوم الأخير كما عاهدهم.
على أن استغراقه في واجباته لم ينسه أمرا ما تخايل لذاكرته حتى أحس له غمزا على قلبه لا يسكن، ذكر أسرته، إبانا زوجه وابنه الصغير أحمس، وأهله جميعا الذين تضمهم مزرعته في ضواحي طيبة، ما أطول السفر! إنه لا يستطيع قطع الطريق إلى مزرعته في الليل، ولو فعل ما استطاع أن يفي بعهده لجنوده ولظنوه هاربا، فسيلقى حتفه دون أن يلقي نظرة وداع على وجه إبانا وأحمس .. وكان هنالك ما هو أثقل على قلبه من هذا، وكان يتساءل محزونا: هل يترك الرعاة صاحب أرض في أرضه، أو صاحب مال لماله؟ سيشرد السادة غدا أو يقتلون في ديارهم، وستغدو إبانا وأحمس بلا نصير .. وضاق الرجل، ونازعه قلبه طويلا إلى بيته وآله، ولكن قلبه كان في سبيل، وإرادته الحديدية في سبيل سواه .. وتنهد آسفا وهو يقول: «فلأكتب لها كتابا ...» وبسط على عجلته ورقة وكتب إلى السيدة إبانا يقرئها السلام ويستودعها الرب، ويدعو لابنه بالخلاص والسعادة، ثم قص عليها ما وقع من أحداث، وما صار إليه الجيش ومليكه، وأخبرها بهجرة الأسرة المالكة إلى مكان مجهول - ولم يذكر النوبة لحكمة يريدها - ونصح لها أن تجمع ما تستطيع من ماله، وتفر وابنها ومن يتبعها من الأهل والجيران إلى خارج طيبة، أو إلى الأحياء الفقيرة، حيث يختلطون بعامة الشعب ويشاركونهم مصائرهم، ثم باركها وبارك ابنه، وختم كتابه بقوله: «سنلتقي حتما يا إبانا هنا أو في العالم السفلي» وأعطى الكتاب سائقه، وكلفه أن يذهب به إلى قصره الريفي ويسلمه إلى زوجه، ثم قفز إلى عجلته وألقى نظرة أخيرة على معبد آمون والمدينة الهاجعة في الغارقة في الظلام، وهتف من صميم قلبه: «رباه .. احفظ بلدك .. الوداع يا طيبة!»
ثم أرخى العنان لجواديه، فانطلقا به يعدوان في طريق الشمال.
14
وبلغ القائد المعسكر بعد منتصف الليل، وكان الجيش الجريح نائما، فمضى إلى خيمته وارتمى على سريره في إعياء وهو يقول: «فلنستجم قليلا لنموت ميتة تليق بقائد قوات سيكننرع»، وأغمض جفنيه، ولكن بعض أخيلة قامت غشاء كثيفا بين رأسه وبين النوم، فتخايلت له أشباح الأهوال التي ابتلي بها في نهاره وليله، فرأى الرماة وهم يلقون العجلات المنصبة عليهم كالسيل، ومولاه سيكننرع يسقط صريعا والرمح في جانبه، وكاموس يثور غاضبا، ثم يسلم محزونا، وتوتيشيري تئن من جرح قلبها العجوز، ووداع إبانا وأحمس الصغير، وتلك السحب المتلبدة التي تتجمع في أفق الجنوب .. ثم اختلطت الأخيلة فيما يشبه الموج، ورقت وتهافتت بغير شعور منه، فانساب النوم إلى جفونه.
واستيقظ حين الفجر على صوت النفير، فقام يحس نشاطا غريبا لا يتفق وما لاقاه من إرهاق ونصب ونوم خفيف، وبرح خيمته إلى الخارج، فسمع في سكون الفجر حركة تنتفض في أنحاء المعسكر، ورأى أشباح رجال تقبل نحوه عرف من أصواتهم ضباطه البواسل المخلصين، فاستقبلهم استقبالا حارا، وكانوا قد قاموا في أثناء غيبته بعمل عظيم، فقال رجل منهم: أرسلنا الجرحى في قوارب إلى طيبة، وكذلك المصابين إصابات خفيفة، لكي ينضموا إلى قوات الدفاع عن أسوار طيبة، وما من شك في أن طيبة ستحسن الدفاع عن نفسها حتى تنال أحسن الشروط.
وقال له ضابط آخر شديد الحماسة: إننا - معشر أهل الجنوب - تهون علينا الحياة في أوقات المحن، فما من رجل منا إلا نفد صبره في انتظار المعركة الأخيرة.
وقال ثالث: ما أشهى الاستشهاد إلى نفوسنا في هذه البقعة المقدسة، التي ارتوت بدماء مليكنا الزكية!
فأثنى بيبي عليهم جميل الثناء، وقص عليهم ما وقع في طيبة من هجرة الأسرة الفرعونية، ولكنه لم يذكر لأحد المكان الذي قصدت إليه، وقد بلغ التأثر بالضباط مبلغا عظيما، وهتفوا لكاموس الملك، وأحمس ولي عهده، والأم المقدسة توتيشيري.
Halaman tidak diketahui