وكان يبدو على وجوههم الإعياء والخور فقال لهم الضابط: استريحوا قليلا ثم جدوا في السير، فعما قليل ينقلب هذا الوادي الساكن ميدانا للقتال.
ولوى الرجل عنان فرسه وانطلق به إلى خيمة القائد في أبيدوس، وأبلغه الخبر، وقام بيبي من فوره إلى الملك وقص عليه الخبر، فتلقاه بدهشة وانزعاج وصاح: كيف وقع هذا .. هل بلغ خيان منف في هذا الزمن اليسير؟
فقال بيبي بحنق: لا شك يا مولاي في أن عدونا حشد جيشه على حدودنا قبل أن يبعث إلينا برسوله، فهو كان يتربص بنا، وما عرض علينا مطالبه إلا وهو يرجو أن نرفضها، فلما اجتاز خيان حدودنا عائدا أصدر أمره للجيوش المحتشدة بالهجوم، هذا هو التفسير المعقول لذلك الهجوم السريع العنيف!
فاصفر وجه الملك سيكننرع غضبا وحنقا وقال: إذن سقطت بانوبوليس وبطلمايس. - نعم وا أسفاه يا مولاي، ولا يجدي في الدفاع عنهما بسالة حاميتنا قليلة العدد.
فهز الملك رأسه أسفا وقال: خسرنا أوفق ميدان قتال لنا. - لن يؤثر هذا في شجاعة جنودنا الفائقة!
وفكر الملك مليا ثم قال لقائد جيوشه: ينبغي أن نخلي أبيدوس وتنثيرا إخلاء تاما.
فبدا التساؤل على وجه بيبي فقال الملك: لن ندافع عن هذه المدن.
فأدرك بيبي ما يعنيه مولاه. - أيريد مولاي أن يلقى العدو في وادي كبتوس؟ - هذا ما أريده، فهنالك تمكن مهاجمة العدو من عدة جهات، وتوجد في أنحاء الوادي حصون طبيعية، وسأترك له في المدن التي نخليها عصابات تكر عليه دون أن تشتبك معه في قتال فتعطل تقدمه حتى نقوي مراكزنا، هيا يا بيبي ابعث برسلك إلى المدن ليخلوها، ومر القواد بالتقهقر في الحال، ولا تضع وقتا فإن حبل الأرجوحة التي يترجح فيها مصير قومنا أمسى أحد طرفيه في يد أبوفيس.
9
وصاح المنادي في أهالي أبيدوس وبرفا وتنثيرا أن احملوا متاعكم وأموالكم وسيروا إلى الجنوب، فقد أمست دياركم ميدان قتال لا يعرف الرحمة، وكان القوم يعرفون من الرعاة وما أعمالهم، فتولاهم الخوف وبادروا إلى أموالهم وأمتعتهم يكدسون بها العربات تجرها الثيران، وإلى البقر والأغنام يسوقونها سوق المتعجل، ولموا شعثهم وهرعوا نحو الجنوب تاركين أراضيهم وديارهم، وكأنما تقطع أوصالهم من الحزن والأسف، وكان كلما تقدم بهم المسير ألقوا بأبصارهم المظلمة إلى الوراء تنازعهم قلوبهم إلى أوطانهم، ثم تفزعهم المخاوف فيجدون سراعا إلى المجاهل التي تنتظرهم، ومروا في طريقهم ببعض فرق الجيش فخفقت قلوبهم في صدورهم وداعب أحلامهم الأليمة أمل، وافترت ثغورهم عن ابتسامة فرح التمعت في جو أحزانهم كما تضيء أشعة الشمس خلل ثغرة بين السحب انقشعت عنها لحظة في يوم أدكن السماء، ولوحوا بأيديهم وصاح الكثيرون: «أراضينا وديعة مسلوبة .. ردوها إلينا أيها البواسل!»
Halaman tidak diketahui