وبدأ الخطباء الحفل وقصد القائمون بتنظيم الحفل ألا يفتتح القرآن الكريم حفلهم، واكتفوا بآيات من الميثاق تغطي القاعة كلها. وكانت الأوامر أن يدوي التصفيق في مواطن معينة وأن يبلغ مداه كلما ذكر اسم بذاته، واستجاب الطلبة للأوامر وما لهم لا يفعلون وقد لقنتهم الحياة التي نشئوا فيها أن مصر لم توجد إلا في هذا العهد وأنها لن توجد إلا في هذا العهد، وكاد أن يصبح من الثابت لديهم أنهم يشهدون عصر بعث جديد لدين جديد ونبي جديد.
وإذا كانت عقول الطلبة قد اضطرت أن تصدق هذا أو توشك أن تصدقه فإن أبنية الجامعة ليس يعنيها من هذا جميعه شيء، وإنما يعنيها فقط أن تكون مقامة على الأسس العلمية الصحيحة، فلا ينتقص أحد من موادها الأساسية مهما يكن هذا الشيء قد تمثل في مزيد من المال لفرغلي ونديم ويحيى.
وأبنية الجامعة تستطيع أن تتكلم، وإذا فعلت كان حديثها أحداثا مروعة تفتك بالأرواح والآمال وبالمستقبل وبأعمدة الحياة، وقد شاءت قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة أن تتحدث في هذا الوقت بالذات. وربما كانت آيات الميثاق قد أثقلت جدرانها، أو ربما كان الاسم العريض الذي يتردد في كل جملة شديد الوقع على الأبنية. ومن يدري ربما كان التصفيق الذي ينطلق من أيد بريئة تنفيذا لأوامر غير بريئة قد جعل البناء يختار هذا الوقت بالذات ليتكلم، أو ربما أراد البناء أن يقول كلمة فيسمعها العالم أجمع ويصبح تكتم الأمر مستحيلا. فقد كانت كل الأحداث الكبرى التي لا تشهدها جموع تنكتم أنباؤها كالموت الذي تصنعه.
سبب من هذه الأسباب أو كل هذه الأسباب اجتمعت؛ فإذا البناء الضخم ينهار على الشباب اليافع المخضل بماء الحياة وإن كانت حياة كلها غش وكذب وخديعة وأضاليل، هم من غشها وكذبها وخداعها وضلالها أبرياء، بل هم ضحاياها ولا بد للتضحية أن تبلغ منتهاها فبلغت، ولا بد للشهيد الحي الذي يحيا حياة واهمة صنعها له الأفاقون أن يصبح شهيدا في كتاب الله ليحتسبه ربك ذو الجلال الصادق الوعد مع الصديقين ومع شهداء الحق على مدى الزمان.
لم يكن الأمر مجرد مقتلة لآلاف من الأبناء والبنات، وإنما كان مقتلة لكل الشعارات المرفوعة على فراغ واللافتات المقامة على الهواء.
وبدأت الاتهامات، وبدأ كل مسئول ينفي التهمة عن نفسه. واستطاع فرغلي في جرأة عريضة أن يقول إنه رئيس مجلس إدارة، ومن كان في مثل مكانه لا يسأل عن التفاصيل وإنما هو أناط نديم المدير العام ويحيى كبير المهندسين بالشركة أن يقوما بتنفيذ البناء. ولم يكن عجيبا أن يكون صديق العمر وابن العمة هما أول حطب يلقى إلى حريق الآلام الذي ثار عن الحادث، فما عينهما فرغلي إلا ليكونا حطبا إذا احتاج إلى حطب.
ومن يستطيع أن يكذبه وهو يتهم ابن عمته الذي لا يجهل أحد صلة الرحم بينهما، وصديق العمر الذي لا يجهل أحد صلة الأيام الطويلة التي تجمعهما.
وبدأ التحقيق، وويل لبعض الناس من هذا التحقيق! لقد رأى نديم الموت الذي صنعه والذي لم يتصور أن ينتج عما فعل؛ فقد عاش حياته كلها مع فرغلي واستطاع أن يرغم بقوة فرغلي الأيام أن تستر ما يصنعان فما لها اليوم قد صنعت به ما صنعت؟! وكيف يلقي به فرغلي إلى أتون العدالة وفجيعة الآباء والأمهات والأحباب وسخط الرأي العام في هذه السهولة وفي هذا اليسر؟! لم يكن ذلك غريبا على فرغلي ولم تكن دهشة نديم لتبلغ مداها هذا الذي بلغته لو لم يكن يعرف ما يعرف من أسرار فرغلي التي يستطيع أن يذيعها في حماية المحكمة، ولو لم يكن يعرف أن فرغلي يقدر جسامة ما في جوف نديم من أسرار عنه. ونسي نديم الأهبل أن فرغلي يستطيع أن يجعل نديم يقول ما يشاء وفي نفس الوقت لا يسمعه أحد، نسي نديم الأهبل الأحابيل العديدة التي يمسك بها فرغلي.
ولكن كلمة نفذت من أسرار فرغلي رغم أنفه إلى الحياة، فإن للسماء طرقها الخاصة التي تجعل بها الحقيقة تفلت إلى الحياة.
22
Halaman tidak diketahui