فقد كان من الطبيعي أن يتزوج نديم بعد أشهر قليلة من ميلاد معتز وتطليقه المعلن لأمه.
وكان أبناء يحيى وممدوح كبارا وقد وجدوا جميعا الوظائف التي لا يصل إليها أمثالهم من أبناء عبيد الحجرات وسادة المجتمع.
وكانت نفوس يحيى وممدوح ونديم تفهق ألما وكمدا ولكنها نفوس ارتضت الطريق، وهي تعلم من بدايته أن هذا الخزي من معالمه، ولكن أكان هذا العلم يكفي لمنع الشعور بالمهانة خاصة حين تصل إلى قمتها أو إلى حضيضها، هم يرون أنفسهم موضع إذلال أمام أبنائهم الذين كانوا يظنون أن آباءهم أعزة كرام، وكانوا كما كان جميع من حول فرغلي يدرون أن إذلال الناس هوايته التي أصبحت حرفته، وكانوا يصمتون ولكن على أي ألم كانوا يصمتون.
20
الحقيقة
فوجئ معتز وهو في مطالع الشباب أن المال نضب عند أمه؛ فهي تحتال على العيش احتيالا. راحت تبيع الأثاث الفاخر الذي كان يزين كل ركن في شقتها الفاخرة المتسعة وتستبدله بأثاث حديث فيه ذوق لا يعينه مال كبقية الجمال التي تخلفت على وجه أمه، ولكن الأثاث الفاخر يزينه القدم، والجمال الآدمي الدارس يشينه الزمن، وحاولت أمه أن تدعي أن هذا الأثاث الذي تبيعه لم يعد يناسب ذوق العصر؛ فكانت في دفاعها عن البيع مثلها في دفاعها عن فنها الذي مله الناس، وتدعي هي أنها تواجه حربا خفية من عدو مجهول، وأن المنتجين والمخرجين يريدون العاهرات ولا يريدون الفنانات.
وجديد على معتز أيضا أن أمه أصبحت تؤجر شقتهم للعرب في الصيف وتقيم معه ثلاثة أشهر الإجازة في الإسكندرية بشقتها هناك، وتقول في بساطة أليس هذا خيرا من أن تبقى خالية؟ ولا يحاول معتز أن يذكرها برأيها العنيف عن هؤلاء الذين يؤجرون مساكنهم، ويقبلون أن ينام قوم لا يعرفونهم في فرشهم. لقد أحس الفتى، وما لنا لا نقول أدرك أن أمه، تعاني أزمة مالية، وأدرك أن هذا الإيجار السنوي يوشك أن يكون موردهم الوحيد.
واستمرت به سنوات الدراسة وهو على هذه الحال محاولا أن يخفف عن أمه ما تلاقيه مدعيا أن ما يحدث أمامه أمر طبيعي لا غرابة فيه، وتحس الأم بهذا الحنان من ابنها وتعجب من أين جاء به؟ لقد كبر وهو يعلم أن أباه نديم الطوبجي طلق أمه بعد ميلاده بعام أو أقل، وأنه تزوج من أخرى وأنه يكتب ثروته الباذخة بأسماء أبنائه مباشرة حتى لا ينال هو شيئا.
وتفكر إسعاد كيف لمعتز أن يكون بكل هذا الحنان، بل كيف لم يفكر أن يرى أباه، وكيف لم يفكر أن يلجأ إليه يطالبه بحقه؛ فهو لا يعلم أبا لنفسه إلا نديم، وهو لا شك قد عرف أن لكل ابن على أبيه حقا. كيف استكبر أن يلجأ إليه أو يقترح على أمه أن تطالبه؟ من أين أتى بهذا الكبر وهو ابن لهذه الخسة العظمى التي يمثلها أو ينشئها لأول مرة على أرض البشر أبو معتز الحقيقي فرغلي؟!
سبحانه هو الذي يسوي النفوس كما يشاء. وقد عاش معتز فترة طويلة من حياته في هناء مالي وفي ظل وريف من حنان أمه، ترى هل تكونت نفسه في هذه الفترة وهو بعد صبي يشب عن الطوق؟ أم ترى رأى في حنان أمه ما يعوضه عن أي شيء قد تهفو نفسه إليه؟ أم ترى ليس لهذا الخلق من سبب إلا أن الله الرحيم في علياء سمائه رأى أن يجعل من هذا الابن نفحة رضاء إلى قلب الأم تعوضها عن مجد ضائع وجمال زال وحياة تحطمت، وهي بعد في البداية؟
Halaman tidak diketahui