وأحس الوفد أن مكانته عند الشعب راحت تتدهور في سرعة فائقة فلجأ إلى مفاوضة الإنجليز الأمر الذي كانت تحاوله كل وزارة، والحقيقة أننا مهما نأخذ من مآخذ على الأحزاب السياسية فإننا لا نستطيع أن نلوم أي حزب على صلته بالإنجليز. فإن نكن في ذلك الحين قد نلنا جزءا كبيرا من استقلالنا وأصبح لنا برلمان وممثلون سياسيون وحرية داخلية هي في مأمن ما دامت بعيدة عن المصالح الإنجليزية، إلا أن الحقيقة التي لا شك فيها أن الإمبراطورية الإنجليزية كانت تحتل مصر، وكانت تحتلها بقوة السلاح، ولو كانت مصر قوية ما استطاع الإنجليز أن يحتلوها، فقصارى ما يستطيع رئيس الوزراء المصري ألا يسلم للإنجليز بكل ما يطلبون، ويحاول أن يجعل احتلالهم معقولا أو شبه معقول. والحقيقة أيضا أنه لم يكن بين رؤساء الوزارات أو الوزراء من تستطيع أن تقول عنه إنه خان بلاده؛ حتى الذي كان يداهن الإنجليز أشد المداهنة؛ كان يرى أن هذه هي السياسة المثلى التي قد تعود على مصر بالخير ويجعلها تنال نفعا ماديا ما دامت في ظل الاحتلال لا تستطيع أن تنال انتصارا أدبيا. وقد سمع الشعب النقراشي أثناء رئاسته للوزارة وهو يصرخ في هيئة الأمم المتحدة صائحا بالإنجليز: اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة، وكانت هذه أول مرة يسمع فيها الإنجليز مثل هذه الصرخة في أعظم محفل دولي في التاريخ، ومن العجيب أن حزب الوفد يوم ذاك أرسل برقية موقعة باسم رئيسه أن النقراشي لا يمثل الشعب المصري. لا علينا دخل الوفد في مفاوضات انتهت إلى فشل. ووجد رئيس الوفد أنه أصبح في موقف يتحتم عليه فيه أن يتخذ موقفا. وكان رئيس الوفد بارعا في إرضاء الشعب، ولكن أغلب السياسيين لم يكونوا مقتنعين ببراعته في السياسة.
في هذه الفترة كانت سمعة الملك قد بلغت الحضيض فانتفض ثلاثون من زعماء المعارضة، وكتبوا بيانهم الشهير ينبئون فيه الملك عاقبة ما تردى فيه من دعارة سياسية وخلقية، وانتشر البيان وجن من الملك جنونه ووقفت وزارة النحاس عاجزة لا تستطيع أن تعارض البيان فهو حقيقة ولا تستطيع أن تؤيده فهي الوزارة المسئولة. وكان واجبها هي قبل أن يكون واجب المعارضة أن تنبه الملك إلي ما يأتيه وأهله من عهر يسيء أول ما يسيء إلى سمعة مصر.
وهكذا لم يجد رئيس الوزراء سبيلا أن يستعيد ثقة الشعب إلا بأن يجعله يتجه وجهة أخرى لا يختلف اثنان في أمرها.
وهكذا ألقى مصطفى النحاس بيانه التاريخي في مجلس النواب: باسم مصر وقعت المعاهدة، وباسم مصر ألغى المعاهدة.
وانقدحت الشرارة وذهل رجال الأحزاب ورأوا المستقبل أمامهم واضحا لا غموض فيه.
ولكن زعيما من زعمائهم أعلن الثورة على الإنجليز وهم أبناء هذا الشعب فلا بد أن ينضموا إلى الثورة مهما تكن النتائج.
أيد الأحرار الدستوريون كما أيدت الهيئة السعدية إلغاء المعاهدة والوقوف مع الوفد صفا واحدا، وبدأت الجماعات في القتال حيث كانت تعسكر القوات الإنجليزية.
وحدث الحدث الشهير لرجال الشرطة الذين كانوا يوزعون السلاح من مقر مركز الإسماعيلية؛ فإذا بالقوات الإنجليزية تحيط بالمركز وتوجه إنذارا للضباط الذين في داخله أن يستسلموا في مدة حددوها، أو هم سيهاجمون المركز. ويتصل رجال الشرطة بوزير الداخلية ويأخذ قراره. - ارفضوا الاستسلام.
وانقسم الناس في الحكم على قرار الوزير قائلين: لو كان معهم ما أمرهم بالموت، وقال آخرون: إنه تحمل على ضميره في شجاعة منقطعة النظير مصير كل هؤلاء الرجال ليظهر العالم على فظائع الإنجليز في مصر في القرن العشرين. وهاجمت القوات الإنجليزية مركز الشرطة وقتلت عددا كبيرا أصبحوا اليوم جميعا شهداء معركة وطنية من أعظم معارك مصر.
وكان هذا الاستبسال في حرب الإنجليز جديرا بأن يجعل مصر تنال جزءا كبيرا من حقها المضاع.
Halaman tidak diketahui