كان فرغلي سائرا إلى جانب أبيه متجهين إلى بيت الباشا أو السراية كما تعودوا أن يقولوا.
كيف سألقى هذا النوع الجديد من الناس؟ باشا ... الذي لا شك فيه أنه نوع فريد أو هو على الأقل نوع لم أر له مثلا إلا في صور الجرائد، نعم ... ولكن أين الصورة من الأصل؟
أتراه يقبل أن يستقبل أبي؟! وإن فعل فكيف يلقاه؟ ولماذا هو باشا وأبي هو الأب الساعي إلى جانبي يرزح تحت ألوان شتى من الهوان منها الفقر ومنها تصرفات الزمان ومنها كثرة العيال ومنها الذكريات المهينة، ومنها الحياة المقيتة؟
أيكون لهذا الباشا أيضا متاعبه؟ أهو إنسان له الآمال التي قد تبلغ الحقيقة أو تنزوي خزيانة منكسرة مهينة؟ أيخشى على أبنائه من الزمان أن يتركهم ليربيهم غيره كما فعل أبي؟ وهل يفعل أحد مثلما فعل أبي؟
أطويل الباشا أم قصير؟ أيكون باشا وقصيرا؟ أظن لا يمكن. باشا ... باشا ... انظر إلى الكلمة تجد الحروف كلها ممدودة بالألف با..شا.
بماذا سيقدمني أبي؟ ابني فرغلي ... ماذا؟ فرغلي ... عجيب أمر هذا الرجل ... ألم يستطع أن يحسن إلي في شيء أبدا؟ يتزوج لي أما من السيرك، وراقصة، وتهرب ... هذا خير ما فعلته ثم حين يختار لي اسما يختار فرغلي ... من أي مصيبة أتى بهذا الاسم؟ فرغلي ... فرغ لي ماذا؟ ماذا أفرغ لك؟ أفرغ لك ماذا؟ سما هريا إن شاء الله. فرغلي ... هل يمكن أن يوحي هذا الاسم إلا بفراغ المسمى به وغباء المسمى له؟ حتى الاسم استخسرت أن تختاره لي يا آبا! الله يسامحك.
لم يكن الباشا طويلا بل كان قصيرا مبالغا في القصر، فكان هذا أول خيبة أمل لفرغلي، ثم هو نحيف كخيال العصا، ولكنه أنيس بشوش أحسن لقاءهما، وكان الحديث منه سمحا رضيا، وانقلبت عند فرغلي كل الموازين. وحين نال التوصية هجم على يد الباشا يريد أن يقبلها فإذا الباشا يختطف يده اختطافا من يدي فرغلي المصممتين ... أستغفر الله يا ابني ... أستغفر الله ... لقد صنعت مستقبلي يا معالي الباشا ... المستقبل لا يصنعه إلا اجتهادك وصلتك بربك ... يا أولاد الكلب تشترون دماءنا وذلنا بالكلام المنمق وتدعون أيضا طاعتكم لله ... أطال الله عمرك يا معالي الباشا وجعلك دائما نصير أمثالنا الذين يعيشون بين الناس بحسكم ... أستغفر الله يا ابني ربنا يوفقك. ••• - لماذا سافرت من غير إبلاغي. - أنا لا أعرف كيف أتصل بك. - كان عليك أن تنتظر. - خفت أن يطول الانتظار. - وماذا عليك لو طال؟ - كنت أريد أن ... - نعرف السبب الذي سافرت من أجله. - ألم يكن من الطبيعي أن أتعجل؟ - إخوانك ينتظرون سنوات حتى يحصلوا على وظيفة. - ولكنهم يسعون منذ أول يوم لتخرجهم. - هذا إذا كانوا فقراء. - ألا تراني فقيرا؟ - الآن، وأنت تعمل مع ثلاث جهات كل جهة منها كفيلة أن تغني أسرة ... ما المرتب الذي تتوقعه؟ - المسألة ليست مسألة مرتب. - قلت في نفسك إننا كنا محتاجين إليك وأنت في الجامعة وخفت بعد أن تخرجت أن نستغني عنك، وخفت أيضا أن تستغني عنك الجهتان الأخريان. - فلماذا تعجب من سفري؟ - المفروض ألا تترك القاهرة إلا بعد إخبارنا. - ها أنت قد عرفت دون أن أخبرك. - هذا طبيعي. - وما دام ورائي من ينقل أخباري. - لا تحاول أن تعرف شيئا عن وسائلنا ... - المهم أن تعطيني الفرصة أن أكلمك إذا أردتك. - لا بأس. اكتب هذه النمرة. - وأسأل عن اسمك؟ أقول وصفي أم ... - تسأل عن اسمي طبعا ... ولقبي أيضا ... الملازم أول وصفي الحديدي ... أتظننا نعمل في خلية؟ - وأقول اسمي؟ - نعم، اسمك الحقيقي فرغلي لا نبيه الذي يطلقونه عليك عند فتحي. - مفهوم ... مفهوم. - لمن أخذت التوصية. - لوحيد بك عفيفي. - شركة الأثاثات المنزلية؟ - نعم. - خيرا فعلت، كنا سنبحث لك عن الوظيفة في شركة كبيرة لتكون عينا لنا على أصدقاء أمين وأصدقاء فتحي. - وهذه الشركة فيها أصدقاء لأمين؟ - ولفتحي أيضا. - هايل. - طبعا ... ضمنت بقاءك في الجهات الثلاثة. •••
حين بدأ فرغلي عمله في الشركة كان مسلحا بأسلحة لا تتوافر لأحد فيها، ولا يستثنى من هذا الإطلاق رئيس مجلس إدارة الشركة نفسه. فقد يكون رئيس مجلس الإدارة غنيا بالمال قويا بتأييد أعضاء مجلس الإدارة وبالمساهمين أيضا، بل هو مسلح أيضا بمعرفة الشخصيات الهامة في الحياة العامة، ولكن أين هؤلاء جميعا من شخصية وصفي وحده؟ فكيف إذا انضم إليه أصدقاء فتحي وهم على قلتهم النادرة فقد كانا اثنين فقط إلا أنهما يملكان تأثيرا قويا على العمال. وكيف إذا انضم إليهم أصدقاء أمين وقد وجد منهم فرغلي في الشركة اثني عشر، كل هؤلاء أصبحوا أصدقاءه منذ اليوم الأول، فما هي إلا بضعة أسابيع حتى أصبحت أسرار الشركة كلها بين يديه. ومن يستطيع أن يلعب بهذه الأسرار في مهارة فائقة مثل فرغلي.
عرف في خبره أنه إذا لم يشرك وصفي في هذه الأسرار فإنه لا يستطيع أن يستعملها في حرية كاملة. وكان فرح وصفي بهذه الأخبار التي تجمعت بين يديه لا يقدر ولم يكن ساذجا في هذا الفرح فما هي إلا بضعة أشهر حتى رقي إلى رتبة يوزباشي.
وحين علم بالترقية طلب فرغلي وقال له في صراحة لم يعهدها منه فرغلي أبدا: أنت السبب في هذه الترقية. - بل أنت السبب. - أنت الذي جئتني بكل هذه الأخبار. - وأنت الذي اخترتني. - الغداء عندي باكر. - وهو كذلك. - اتفقنا. - على شرط. - اشرط. - تتغدى عندي بعد باكر. - عندك! وهل لك عند. - طبعا. - تقصد عند عمتك؟ - تركت بيت عمتي منذ توظفت. - وطبعا قطعت علاقتك بها. - لا والله، على العكس؛ جعلتها هي التي تفرش لي الشقة ودعوتها للغداء هي وعم حسين وممدوح وزوجته ويحيى وزوجته. ما رأيك؟ - أردت أن يروا العز الذي أصبحت فيه؟ - ممدوح ويحيى يملؤهما التكبر. - وماذا قالوا؟ - وجوههم قالت أشياء كثيرة. - طبعا الفرش جديد وعندي راديو وعندي أيضا ... لن تصدق! - منك أنت أصدق أي شيء . - احزر ماذا عندي؟ - طباخ اسمه عبد الشافي الملواني. - يا نهار أسود! لا مؤاخذة؛ نسيت أني أكلمك. - لا تنس هذا أبدا. - نتغدى عندي بعد باكر. - وعندي باكر.
Halaman tidak diketahui