هي النفوس الصغيرة التي يخلق عندها الأمل بكلمة أو بتلغراف، ثم يستولي عليها اليأس بكلمة أو بتلغراف، أما النفوس العالية الكبيرة، فيدوم فيها الأمل ما دام الدم في العروق وما دامت الحياة.
وأي حياة ترضاها النفوس الشريفة مع اليأس؟ أيجمع المرء في جسم واحد الموت والحياة؟ إذ اليأس موت حقيقي وأي موت.
كيف نيأس ونحن جميعا عالمون بأن ما يظهر طويلا في حياة الأفراد هو قصير في حياة الشعوب ؟ فعشر من السنوات في حياة الإنسان طويلة حقا، ولكنها في حياة الأمة قصيرة جدا. على أنه إذا كان اليائسون معتقدين صحة أفكارهم فعار عليهم أن يقوموا في الأمة بوظيفة تثبيط همم الآملين، والآملون في البلاد كثيرون، بل الأمة كلها مؤملة خيرا في المستقبل، وإن لم تظهر إلى الآن أعمال الآملين فستظهر بعد قليل، وسترى الأمة المصرية وأمم العالم أجمع أن للوطن المصري أبناء مخلصين يقدرون الوطنية قدرها، ويعرفون لمصر حقوقها ولا يخافون الاحتلال وقوته، بل يجاهدون في سبل خلاص البلاد منه أشد الجهاد وأحسنه، ولا غرو فإن سبل خدم الوطن عديدة، وإن أهمها إعلان الحقيقة في كل بلد وفي كل زمان، فالحرية بنت الحقيقة، وما نشرت الحقيقة في أمة إلا وارتفعت كلمتها وعلا شأنها، فالحقيقة نور ساطع إذا انتشر اختفى الظلم وانتشرت الحرية والعدل، فكما أن الأفراد لا تسلب حقوقهم ولا يعتدي اللصوص على أمتعتهم إلا في ظلام الليل الحالك، فكذلك شأن الأمم لا تسلب حقوقها ولا يعتدي العدو على أملاكها إلا إذا كانت الحقيقة مجهولة فيها، وكانت هي عائشة في الجهل والظلام.
فيا أيها المصريون المخلصون لمصر، انشروا الحقيقة في أمتكم والأمم الأخرى. قولوا للمصري إنه إنسان من بني الإنسان، له حقوق الإنسان تروه رجلا كرجال الأمم الحرة يحمل لواء الوطن بكل قوة وإقدام. قولوا للفلاح المصري إنه خلق إنسانا ككل إنسان، وأن الله أعطاه في الحياة حقوق أكبر الأفراد، وأن له صوتا لو رفعه سمع في الملأ الأعلى، وأنه ما خلق لأن يعمل لغيره بل ليعمل لوطنه ولنفسه، تروه عندئذ أشد الناس دفاعا عن حقوق الأمة والوطن. قولوا للأمة المصرية إنها أمة كسائر الأمم من أقدس حقوقها أن تحكم نفسها بنفسها، وألا تنفذ رغائب غيرها، وأن تكون في بلادها عالية الكلمة قوية السلطة لا يرد لها رأي ولا يخالف لها أمر. هنالك تجدون الأمة حية والشعب قويا، ولا ترون أولئك الذين يهزءون برغبة الشعب ورغبة نوابه ويسخرون من رغائب الأمة ومطالبها.
انشروا الحقيقة عن مسألة مصر في كل بلد وفي كل ناد، فليس المصريون وحدهم هم أصحاب الحقوق في مسألة مصر ضد المحتلين، بل معهم أمم كثيرة من أمم أوروبا لها في مصر مصالح توافق مصالحهم ولا توافق مصالح المحتلين، وخير ما يعمل لمصلحة مصر هو أن تنضم الأمة الأوروبية إلى الأمة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي، ففي ذلك الخلاص وفي ذلك السلام.
ولسنا أيها السادة بأنصار دولة دون دولة بل نحن أنصار الوطن المصري، وطن الآباء والأجداد وموطن الأبناء والأعقاب، فإن ظهرت دولة من الدول بمظهر المحبة لمصر والميل لمساعدتها كنا أكبر أصدقائها وأعظم أنصارها، فمصلحة وطننا قبل كل مصلحة، وهي هي المصلحة الوطنية التي تفرض علينا أن نشكر من صميم فؤادنا الذين رفضوا من سياسي أوروبا العمل مع الإنجليز ضد مصر، والذين أوقفوا الإنجليز عن حد الاحتلال في البلاد، وهي هي المصلحة الوطنية التي تفرض علينا أن نشكر كل رجل من أي أمة كان يدافع عن حقوق وطننا، ويساعدنا على استرداد حريتنا وحقوقنا الشرعية.
وإذ كان بعض الرجال المخلصين للوطن العزيز يخافون الظهور أمام قوة الاحتلال بمظهر المجاهدين ضده، ولا يستطيعون أن يقوموا أمام الأمم مدافعين عن بلادهم مناضلين عن حقوق شعبهم، فعليهم في مصر نفسها واجبات وطنية يضيق المقام عن عدها، ولكني أقف قليلا وأذكر منها بنوع خاص واجب تربية الأمة وتعليمها.
نعم إن هذا الواجب أكبر واجب وطني، والبلاد مطالبة بالقيام به، فقد أصبحت المدارس على خلاف رغائب الشعب وآماله، وأصبحت الأمة في حاجة إلى مدارس أهلية ترشدها إلى مصلحة البلاد الحقيقية، وتعلمها ما للأمة من الحقوق وما عليها نحو الوطن من الواجبات.
لم لا يقوم كبراء مصر ووزراؤها السالفون بأمر تأسيس المدارس الأهلية وتربية الأمة؟ لم لا يعقدون الشركات لهذه الغاية، ويخصصون أيامهم الأخيرة لهذا العمل الشريف؟ رأينا عظيما منهم قام بمسألة الإعانة العسكرية، وأجهد نفسه في هذا الأمر، وله من الأمة والوطن جزيل الشكر والثناء، فلم لا نراه يقوم مع الكبراء الآخرين بمسألة إعانة عمومية لتأسيس مدارس أهلية والبلاد في أشد حاجة إليها ؟ يا أيها الكبراء ويا أيها العظماء ويا أيها الأغنياء، ما الفخار بالرتب والألقاب، ولا بسكنى القصور العالية والتحدث بما كان وما ربما كان سيكون. بل الفخار كل الفخار في العمل آناء الليل وأطراف النهار لخدمة البلاد وإعلاء شأنها، فما الحياة بأيام تمر وسنين تكر، بل بالعمل وبالخدمة الوطنية.
وما الحياة بأنفاس نرددها
Halaman tidak diketahui