اسألوا التاريخ أيها السادة ما واجب أمة دخل الإنجليز ديارها خدعة وعملوا لامتلاكها وسلبها كل سلطة وكل قوة؟ يجبكم التاريخ أن واجب أمة هذا شأنها أن تعمل بكل ما في استطاعتها ضد مغتصبها، وأن تبذل في سبيل خلاص وطنها كل ما تمتلك من مال ورجال.
أجل، كل احتلال أجنبي هو عار على الوطن وبنيه، والعار واجب أن يزول، ولست أقصد بهذا الكلام أن أسألكم باسم الوطن إعلان ثورة دموية ضد محتل البلاد. كلا ثم كلا. إن أقل الناس إدراكا لمصلحة مصر يعلم علم اليقين أنها منافية لكل ثورة وكل هيجان، وإنما أسألكم أن تعملوا بكل الوسائل السلمية على استرداد الحقوق المسلوبة منكم، وأن تعملوا لأن تحكم البلاد بأبناء البلاد. نعم إني أعلم أن الاحتلال قوي السلطة عظيم الرهبة شديد العقاب، وأن العمل ضده موجب للعذاب مسبب للفقر والفاقة، ولكن في الرضى بالاحتلال الخيانة والعار، وفي العمل ضد الاحتلال الشرف والفخار.
فيا ذوي النفوس الأبية، ويا ذوي الضمائر الحية، اطلبوا الشرف ولو مع الفقر، اخدموا الوطن ولو أسقطت على رءوسكم الصواعق. كونوا مع مصر إن سعيدة فسعداء وإن تعيسة فتعساء. قولوا لعدوها في وجهه: أنت عدو لنا، ولصديقها: أنت صديق لنا. لا تحبوا من يرميها بنبال الموت بل امنعوه عنها إذا قدرتم، ثم ردوها في صدر راميها إن استطعتم، وإن لم تستطيعوا فكونوا معها لا مع المعتدين.
وإن لمصر غير المحتلين أعداء آخرين هم آلات الاحتلال، آلات الفساد، فإن ذكرتم الأعداء فاذكروا الخونة فهم ألد الأعداء، وأي الأعداء هم. أولئك الذين أنكروا الوطن والوطنية، وائتمنوا على مصالح الأمة فعرضوا بها للدمار. أولئك الذي أبرتهم مصر فقابلوا برها بالسوء، وصاروا اليوم في أيد المحتلين ضد الوطن العزيز. آلات الدمار. آلات الخراب. أولئك الذين كلما صعدوا درجا من درجات المناصب نزلت نفوسهم دركا، وفقدوا نصيبا من الشرف وسمو الإحساس. أولئك الذين يبيعون الوطن على مشهد من الأمم، ويسيرون بين الناس حاملين لواء الخيانة والعار. أولئك الذين إذا مد إليهم الوطن يد الاستغاثة مدوا إليه سيوفا ليقطعوا بها يده الشريفة.
هؤلاء هم الخونة وهم أشد الأعداء ضررا، ويعلم الله أن الدم الذي يجري في عروقهم هو دم فاسد ليس بالدم المصري الصادق، وأنهم مهما ذاقوا من لذة الحياة الظاهرية فسينالهم العقاب أقسى العقاب ولو من أنفسهم متى حاسبوا ضمائرهم. نعم سيعاقب الخائنون على خيانتهم، فكم رأينا في التاريخ رجالا خانوا أوطانهم، وساعدوا الأعداء على امتلاك بلادهم فعوقبوا على خيانتهم لا من أبناء الوطن فقط بل من نفس الأعداء الذين خدموهم وساعدوهم. هذه سنة الله في خلقه؛ يقتل القاتل عقابا على عمله. فكيف بمن يعتدي على أمة بأسرها بالخيانة، ويعتدي عليها بالسلاح الذي سلمته إياه ليدافع به عنها.
نعم سيعاقب الخائنون، وسيحمل أبناؤهم من بعدهم علم الخيانة على رءوسهم، وسيبقون في التاريخ مثلا كبيرا للأبناء والأعقاب.
وإن ذكرتم الأعداء فاذكروا المنافقين، فهم خونة تفننوا في أساليب الخيانة، يظهرون أمامكم بمظهر المخلصين، وهم يدبرون مع الأعداء المكائد والدسائس، فهم ذوو وجهين وذوو لسانين فحاذروهم، وأعلنوا أمرهم ليخيب مسعاهم وتحبط أعمالهم. ... أيها السادة، أعداء الوطن عديدون، ومصائب الوطن عديدة، وبديهي أن ازدياد الأعداء يزيد من واجبات الوطنيين المخلصين لبلادهم، فلا تظهر الوطنية الحقة إلا في أوقات الخطر، ولا تعرف الهمم العالية إلا عند المصائب، وغني عن البيان أن الأمة بأسرها كارهة للاحتلال، راغبة في الجلاء والحرية، وقد أظهرت هذه الرغبة في ظروف عديدة، وجاهرت بها حينا بعد حين، إلا أنها كسائر الأمم في حاجة لأن يرشدها أبناؤها المتعلمون ورجالها الخبيرون، ويسرني كما يسر كل مصري صادق أن الناشئة المصرية عارفة بواجباتها نحو الوطن العزيز، فهم أبناء الوطن وهم رجال المستقبل، وبهم تحيا البلاد وبهم تقوم.
ولكن هناك فئة من المصريين لا أنكر إخلاص رجالها للوطن العزيز، ولكن أنكر عليهم اليأس الذي يتظاهرون به في كل وقت وفي كل مكان، فهم ما عملوا ولا يعملون للبلاد عملا نافعا، ولكنهم جعلوا اليأس علة عدم العمل وعلة الكسل، فإن سألتهم: لم لا تقومون بعمل عمومي نافع للبلاد؟ أجابوك: نحن يائسون من مستقبل الوطن، معتقدون بظلمة الأيام الآتية.
فبالله كيف يستطيع طبيب أن يحكم على عليل بعدم الشفاء قبل أن يفحص داءه ويعطيه الدواء. على أننا نرى الكثير من الأطباء لا ييأس أبدا من شفاء المريض حتى في آخر لحظة من حياته، فكيف ييأس رجال من بني مصر من مستقبل البلاد، وهم وإن كانوا قد خبروا داء مصر فيعلم الله ويعلم الناس أنهم إلى اليوم ما قدموا لها الدواء، كيف نيأس من المستقبل والمستقبل بيد الله وحده؟! وكثيرا ما تأتي الحوادث بخلاف المنتظر وبغير حساب؛ ألم يكن الكثير من المصريين ومن غير المصريين في يأس من مستقبل الدولة العلية، ويعتقدون أنها على مقربة من الموت؟ فها هي اليوم قد ساعدتها الحوادث التي ساقها الأعداء مؤملين البطش بها فظهرت بمظهر القوة والحياة، وأصبحتم جميعا فرحين بسلامتها معتقدين حسن مستقبلها.
كيف نيأس من المستقبل وقد أرانا التاريخ أمما حكمها الأجانب قرونا طويلة، ثم قامت بعد الذل والاسترقاق مطالبة بحقوقها، وأخرجت الأعداء من ديارها، واستردت حقوقها وحريتها؟!
Halaman tidak diketahui