وذلك أنهم هراب متصنعون، لا هم يتوبون من هذا الأمر ويتطهرون ويصحون ويستقيمون في سيرهم؛ ولا تسمح نفوسهم بأن يصيروا إلى أعمال الأركان، لأن فيه مشقة وضيقا، وقد كانوا أصابوا الروح والسعة. فلا قلوبهم مشغولة بحق الله، ولا أبدانهم مشغولة بعبادة الله. وقد عطلوا الأركان عن العبادة، وعطلوا القلوب عن السير إلى الله عز وجل، وقطع مسافة المنازل. فصاروا ضحكة الشيطان، وبرم القلوب، وثقلا على الفؤاد. يسيحون في البلدان، يخدعون الضعفاء والجهال والنساء عن دنياهم. ويأكلون بما يبدون من الزهد، والسمت الحسن، وكلام الرجال. تراهم الشهر والدهر في الاحتيال والاصطياد. ويجرون المنافع بالرقى، ويباشرون الأعمال على المنى، ويتخيرونها على العمى!
فالكيس أدركه التوفيق من ربه. فثبت ههنا عندما جاشت الحكم في صدره، وراودته نفسه على مخالطة الخلق؛ تزعم له بخداعها أنه قد أصاب من القوة ما يباشر هذه الأمور. فيرجع بعقله عليها، فيقول: كيف آمنك على أمور، وأنت معروفة بالخيانة، ومعك آلة الخيانة، التي تدعى شهواتك؟ ويعزم على إلا يقضى شهواتها ومنيتها. فأيده الله تعالى، وثبت ركنه. وعزم على تجنب هذه الشهوات كلها، ما ظهر منها وما بطن. حتى إذا مر في عزمه، فاستفرغه وبلغ الغاية من ذلك (و) ظن أنه قد أماتها، فإذا هي بمكانها! وذلك أنه بلغ الغاية في روض شهوات الدنيا، وبقيت لذة الطاعات والنفس حية بمكانها.
فمن ههنا زلت أقدام طائفة منهم. فقالوا في أنفسهم. أنقعد فراغا هكذا، نبطل أعمالنا في القعود معطلين؟ بل ننغمس في أعمال البر، فكل ما زدنا منه، ازددنا به قربة إلى الله تعالى. فيقال لهم: هذا (هو) الداء الدفين فيكم، وأنتم به جاهلون! متى وجدت نفسك لذة الطاعات وحلاوتها فأجبتها صرت مفتونا بها. فتأمل هذا المكان، فإن فيه مسرحا من مسارح النفس ومصيدة من مصايد الشيطان. وأعوذ بالله ممن يصير مفتونا بالطاعة!
أما بلغك الخبر، عن جريج الراهب، حيث نادته أمه وهو في الصلاة، فآثر الصلاة على إجابة أمه - فلقي ما لقي من البلاء؟ وهكذا تكون فتنة الطاعة. وهل تكون الفتنة إلا من وجود النفس لذة الشيء؟ فكيف يطمح قلبك أن يصل إلى الله تعالى، مع شهوة النفس؟ فإن شهوة النفس هي الدنيا! إن هذا لحمق! والجهل قد يبلغ بصاحبه منازل الحمقى.
ويقال لمثل هذا المفتون، بمثل هذا القول: متى تتخلص من لحظات نفسك إلى جهدك، وأعمال برك، حتى لا تكون معتمدا عليه؟ والمعتمد على عمله متى يفلح؟ وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول: ((إنه ليس أحد منكم ينجيه عمله. قالوا: ولا أنت، يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)).
قال له قائل: فماذا يصنع إن لم يعمل نفسه في الطاعات؟
Halaman 8