وما كادت تعود إليه نظرته حتى همس المتنبي في أذنه قائلا: دعني أقتله يا ابن يوسف. - اصبر قليلا فالأمر لا يستحق كل هذا، وليس هو من نوع الشرف الرفيع الذي يجب أن يراق على جوانبه الدم.
وما كاد يتم قولته حتى سمعت خطوات أخذت تقترب قليلا قليلا ظهر من ورائها رجل شعشاع يحمل في يده هراوة طويلة غليظة، ويلبس ثياب العسس. فأخذت قلب الخزاعي رعدة، وغاله ارتباك وذعر، ولكنه جمع إليه نفسه، وقال: وهذا أحد العسس يا فراج وهو يستطيع أن يفهم ما نقول. فاهتز العاس لهذا الثناء الضمني على ذكائه وعبقريته، وقال مبتسما: ما الأمر؟ - الأمر في غاية السهولة واليسر، أنت تعرف يا ... يا ... فأسرع العاس قائلا: شماخ الأحول. - أنت تعرف يا شماخ أن مولانا كافورا أمر بضرب دنانير جديدة، وأمر أن يرسل قدر منها إلى عامله بالرملة ولا بد أنك تعرفه يا شماخ. فابتلع شماخ ريقه، ورأى من واجب العظمة والذكاء وكرامة المنصب أن يكون يعرفه، فقال: نعم ... نعم ... أعرفه. - إنه الحسن بن طغج. - نعم الحسن بن طغج بلا شك، إنه الحسن بن طغج. - وأنت تعرف يا شماخ أمر عصابات اللصوص الذين تمتلئ بهم هذه المدينة. فهز شماخ رأسه مزهوا حين رأى انسياق الحديث إلى شأن يستطيع الكلام فيه، وقال: اللصوص يا سيدي؟ إنهم كثيرون منتشرون في أنحاء المدينة، وكبيرهم مسافر بن طلحة، وهم يا سيدي من قبائل القيسية، يضربون خيامهم بأهناس، وهي كورة إلى الجانب الآخر من النيل تقرب من الفسطاط، ولا تخلو ليلة من سرقة أو نهب أو غاراة. كنت أمر ليلة أمس بزقاق القناديل فرأيت باب إحدى الدور مفتوحا، فعجبت للأمر، ودخلت الدار فلم أسمع بها حسا، فلما اقتربت من دهليزها رأيت رجلا مكموما مكتوفا ملقى على الأرض، فتأملته فإذا هو إسحاق الجوهري اليهودي، وهو رجل شحيح جديب الكف جماع مناع، لو عرف أن فوق مناط الثريا درهما لطار إليه، وهو يعيش وحده في هذه الدار، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا يؤنسه في وحشته إلا أكداس من المال والجواهر، فأسرعت بحل وثاقه وفك كمامته، وعلمت بعد جهد أن اللصوص سطوا على داره، وأخذوا كل ما فيها من جواهر وتركوه جثة خامدة بين الموت والحياة. إن سرقة كهذه يا سيدي لا يجرؤ عليها إلا مسافر ورجاله. وخاف الخزاعي أن يسترسل هذا الثرثار في الانطلاق في أقاصيص السرقات التي يكاد يخطئها العد، فقال: أراد مولانا كافور أن يرسل أكياسا من الدنانير الجديدة إلى صاحب الرملة، ووكل إلينا السفر بها فكتمنا الأمر خوفا من اللصوص، وعزمنا أن نسير خفية تحت جناح الليل حتى لا يشعر بنا أحد منهم، فيتعقبنا في طريق الصحراء مع بعض رجاله، ويغتصب منا ما نحمله. - هذا رأي حازم يا سيدي، ونعم والله ما فعلت. هؤلاء اللصوص يا سيدي ... وخاف الخزاعي أن يندفع الرجل إلى أحاديث اللصوص وأفاعيلهم، فأسرع ومد يده إليه بدينار، وقال: وهذا نوع الدنانير التي أخرجتها دار الضرب حديثا. فوثب فراج وأخذ الدينار ونظر فيه، وقال هازئا: وهذا درهم أصفر! فمد شماخ يده واختطف الدينار وحملق فيه بشره ونهم، وقال: تبا لك من أبله ممرور. إن الدرهم لا يكون أصفر أيها الجاهل. إن الدرهم من فضة، والفضة بيضاء، أما الدينار من ذهب، والذهب أصفر. أعرفت أيها الغبي؟ إنه دينار كافوري جديد، وهو يساوي في قيمته خمسة دنانير.
وحينما لمح الخزاعي الجشع في عيني شماخ لمح معه الفرصة المواتية، فقال: فإن هذا الدينار هبة خالصة لمن يسبق منكما إلى فتح الباب. وما كاد يفرغ من قوله حتى وثب شماخ إلى الكوة، وأسرع فالتقط المفتاح وأدخله بغلق الباب وأداره فانفتح، ثم هز يده بالدينار وصاح: اخرجا أيها السيدان.
فأسرعا إلى الباب، وصاح الخزاعي جذلان فرحا: لقد استحققت الدينار يا شماخ! هكذا الشهامة! وهكذا البطولة!
وبقي فراج ينظر إليهما مذهولا دهشا واجما، وهو لا يعرف ما جرى، ويستنجد عقله ليعرف أول الأمر وآخره فلا ينجده، ولم يبق في ذهنه من كل هذه المسألة المعقدة إلا أن الدرهم يجب أن يكون أبيض، وأن الدينار يجب أن يكون أصفر.
وانطلق أبو الطيب والخزاعي كأنما أطلقا من عقال. وجعل المتنبي ينظر من بعيد إلى فراج وشماخ وينشد:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وإنما نحن في جيل سواسية
شر على الحر من سقم على بدن
Halaman tidak diketahui