أما بعد فإني أحمد الله إليك؛ وأطلب لك العافية والسلامة. علمت بتركك الأسود وشكرت الله على نجاتك من هذا الطاغية. وإني أبعث إليك بابني وهو أغلى ما في الحياة عندي، لأرجوك في العودة إلى حلب، لقد تغيرت بعدك الأحوال يا أبا الطيب، وقويت شوكة الروم وطمى طغيانهم، وتخاذل الناس حولي وسئموا القتال. والإسلام والعروبة في حلب أحوج ما يكونان إلى صوتك الرنان، وشعرك الفياض بالقوة والحماسة ليلهب العزائم ويوقظ الهمم. لقد كان وجودك إلى جانبي بحلب طالع يمن علي وعلى المجاهدين في الإسلام، ولقد كانت أيامك أيام انتصار وفتوح ملأت الدنيا بوصفها، وخلدت في التاريخ ذكرها. أقبل علينا أبا الطيب، فإن السيوف تهتز في أغمادها شوقا إليك، ومجالس الأدب تكتم أنفاسها انتظارا لقدومك. أقبل يا شاعر العرب. وإذا كانت في نفسك مني غضاضة، فإني أقول لك الآن ما قلته لي من قبل:
وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه
محا الذنب كل المحو من جاء تائبا
قرأ المتنبي الرسالة فتقاطرت الدموع من عينيه، ثم قبلها مرات وقال: إنني لولا العوائق لطرت إلى مولاي سيف الدولة. ثم أطرق طويلا مفكرا مهموما وهو يستمع لحديث نفسه وهي تقول: يطلبك الآن سيف الدولة بعد أن نبذك وازدراك وتغاضى عن إساءة أهله وعشيرته لك، وبعد أن ضجر بإقامتك ومل ثواءك؟ يطلبك بعد أن صرف وجهه عنك تياها، وترك ابن خالويه يقذفك بالمفتاح في وجهك دون أن يلقى منه نكيرا؟ لا يا أبا الطيب لست ألعوبة في أيدي هؤلاء الأمراء ينبذونها كلما ملو اللهو بها. عرفهم أبا الطيب أن نفسك أقوى من نفوسهم، وأن كرامتك فوق كرامتهم، وأنك إذا انصرفت نفسك عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل. على أنك قد لقيت من الشعر ما كفاك، ومن هؤلاء الأمراء المتقلبين ما تئن اليوم تحت أثقاله، لا يا أبا الطيب، لا تذهب إلى حلب، فإن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين!
ثم اتجه إلى سعد الدولة وقال: يقيم مولاي عندنا أياما ليستريح، وربما تبعته إلى حلب. وأقام سعد الدولة بالكوفة حينا، ولما عزم على الرحيل ودعه الشاعر وألقى في رحله قصيدة لأبيه من أروع ما نظمه في سيف الدولة منها:
ليس إلاك يا علي همام
سيفه دون عرضه مسلول
كيف لا تأمن العراق ومصر
وسراياك دونها والخيول؟
أنت طول الحياة للروم غاز
Halaman tidak diketahui