سار الفارسان في صمت وإطراق، وظللهما الليل بصمته وإطراقه، فكان لا يرى إلا سراج خافت هنا وهناك يلمع في نافذة، ولا يسمع إلا طنين بعوضة أتخمتها الدماء، فأرسلت صوتا ضعيفا متقطعا، ولا يحس إلا رفيف خفاش عاد من بعض الحدائق بعد أن نال من ثمارها.
سار الفارسان هكذا صامتين جامدين فمرا بجامع العسكر، وكان أبو هلال السبكي مؤذن المسجد ينام فوق سطحه، واتفق أن أيقظه بعض الهوام، فبدرت منه التفاتة، فرأى الفارسين. وكان من بين كبار المخرفين يحتفظ إلى حفظه القرآن الكريم بثروة واسعة من أقاصيص الجن والشياطين، فما كاد يرى الفارسين حتى حملق وتمتم بكل ما وعى صدره من صنوف الاستعاذات والأدعية، فلما جاوزاه تنفس الصعداء، وأخذ يسكن رعدة هزت أوصاله، ويحدث نفسه في همس لم تسمعه أذنه: أفارسان هما؟ لا. إنهما لم يكونا فارسين، أنا واثق بذلك ثقتي بوجود هذه المئذنة القائمة. وأنى لفارسين أن يسيرا في هذا الليل الداجي، وفي ليلة يسكن فيها كل رجل إلى أهله ويهدأ ليستقل العيد مرحا نشيطا؟ إنهما لم يتحركا ولم يتهامسا فكيف يكونان رجلين؟ لقد رأيت بعيني شرارا يتطاير من أعينهما، ورأيت بعيني أنهما كانا يركبان أسدين لا حصانين. نعم لقد كانا أسدين ما في ذلك شك. لقد سمعت زئيرهما بأذني. ولقد اتجه أحدهما ببصره إلى أعلى كأنه أحس بمكاني فأخفيت وجهي خلف شرفات المسجد.
ويلي من هذه الأرواح الشريرة التي لا تدب إلا في حلك الظلام! وإلى أين كان يسير هذان الشيطانان؟ أغلب الظن أنهما لا ينتهيان إلى خير، أكان علي أن أصيح بملء صوتي حتى أوقظ النوام لينقضوا عليهما؟ لا. لو فعلت وتيقظ الناس لتسربا في الهواء، ولم يكن جزائي إلا أن أشتم وأرمى بالجنون. غدا أقص على الناس هذا الخبر الرائع، وسيكون حديث العيد، وسوف ينالني شيء من الخير كلما قصصته على من لهم ولوع بمثل هذه الأخبار.
ابتعد الفارسان عن جامع العسكر فمال أحدهما على صاحبه وقال هامسا: كيف نجتاز الباب الشرقي يا أبا الطيب؟ - هذا ما كنت أفكر فيه يا ابن يوسف، ومن العجيب أننا دبرنا كل شيء ولم يخطر ببال أحدنا أن الباب سيكون مغلقا، وأن الحارس قد يكون شريرا عنيفا. - لو كان الحارس شكسا صخابا لقضي الأمر وكتبت علينا الخيبة. - خل عنك اليأس يا ابن أخي، فإن من خصائص هذا الخنجر أنه يسكت الأصوات. - لن ألوث يدي بدماء الأبرياء. - إن من يقف في طريق عزيمتي لا يكون بريئا. فابتسم صاحبه ابتسامة ضاعت في الظلام، وقال: أخشى أن أقف في طريق عزيمتك. - لا تمزح يا خزاعي، فإنما نحن في جد عابس دميم. بم تشير إذا لم نقتل الرجل؟ - لقد اعتدت ألا أفكر في أمر إلا بعد أن أعرف ما يحيط به من شئون، وبعد أن ألتقي بصعابه وجها لوجه، فدعنا الآن من التفكير فلعل الله معقب فرجا.
كان المتكلم عبد العزيز الخزاعي زعيم العرب ببلبيس، وكان يخاطب صديقه وصفيه أحمد بن الحسين المتنبي، وقد عزم في تلك الليلة على الرحيل عن مصر والفرار من وجه كافور، بعد أن أقام أربع سنوات في ضيافة الأسود يمدحه بروائع الشعر، ويخلع عليه من صفات الجلال والبطولة ما يندر اجتماعه في إنسان. ولم يقصد كافورا إلا بعد أن خدعه عماله، أو خدع هو نفسه بأنه سينال عنده الحظوة الكاملة، والمنزلة الرفيعة، وأنه سيوليه إمارة تسكت صائح طموحه، وتشفي غلة نفسه، وترفعه من وهدة الشعراء المجتدين، إلى قمة الملوك الحاكمين. فأقام بمصر يتزلف إلى الأسود ويتملقه؛ ويضفي عليه حللا من الثناء لم ينسجها زهير لهرم بن سنان، ويثب بنسبه المجهول دفعة واحدة حتى يبلغ به ذروة معد بن عدنان. وقد أنفد الأسود حيله، فكان يستجديه ويسأله إنجاز وعده في لطف ووداعة، أو في خشونة وإلحاف. وكثيرا ما كان ييأس فيثور على كافور وعلى نفسه وعلى الناس جميعا، ويلعن الحظ العاثر الذي ساقه إلى مصر، وأوقعه بين براثن هذا الزنجي اللعين، ويبكي على أيام سيف الدولة وعلى سالف عهده بحلب، وما كان يتقلب فيه من نعيم في ظلال هذا العربي المجاهد الكريم الذي كان يفهم شعره، ويقدر مكانته، وينزله بين سمعه وبصره، ولكنه بطر وأشر فلاقى جزاء البطر والأشر. سخط على الجنة التي كان ينعم فيها بوارف من العيش هنيء، فخرج منها مذءوما شريدا، فساقه النحس وقاده نكد الطالع إلى جحيم تأجج فيها الخلف والكذب والمطل والخديعة والرياء. إلى جحيم يرى فيها نفسه وهو العربي العزوف، والشريف الأنوف، الذي تصغر في عينه العظائم، ويرمي بعزيمته إلى أبعد مطارح الآمال، مدفوعا إلى أن يقول للقرد: أنت آية الجمال ، وللكلب: أنت العزة في تمثال، ولابن آوى أنت صفوة الصحاب، وللثعبان أنت ملح اللمى عذب الرضاب. وأن يقول لكافور:
أنت شمس أنت بدر
أنت نور فوق نور
إلى جحيم أحرق فيها آماله ومطامحه وعزته وشممه، وهدم فيها كل مجد بناه، وشرف أثله وأعلاه، وأصبح من سوقة الناس شاعرا مستجديا بغيضا، يرمي إليه العبد بفتات موائده، ويلزمه أن يقول بكل لقمة يزدردها بيتا من الشعر في وصف آلائه الحسنى، وآيات عظمته الكبرى. إلى جحيم سلط فيها كافور عليه زبانيته ينتقصونه ويزدرونه ويتجسسون عليه، فلا ينطق بكلمة إلا وهي في كتاب، ولا يخطو خطوة إلا ولها عندهم حساب.
ضاق المتنبي بمصر واختنق بعد أن رأى أنه فقد فيها كل شيء، ولم يحصل على شيء. وبعد أن رأى شبابه يولي قبل أن يبلغ من الدنيا مأربا، وغصن عوده يذوي وتسقط أوراقه جافة يابسة كما تسقط أوراق الخريف إذا عصفت بها الرياح، وبعد أن رأى الشر يلمع في عيني كافور، ورأى النمر يستجمع للوثوب، والصل الأسود يقترب منه رويدا رويدا ليقبله قبلة الوداع، وبعد أن تواترت إليه الأخبار بأن كافورا ووزيريه ابن الفرات وأبا بكر بن صالح يعدون الفخ لاصطياد الطائر الطموح المغرور، وبعد أن جلس الجواسيس والعيون حيال داره لا يفارقونها في صباح أو مساء.
ضاق المتنبي بمصر واختنق حينما تنكر له أهلها، وناصبه العداء علماؤها، ومشى له الضراء شعراؤها، وأصبح شعره فيها سخرية في كل مجلس، ومتندرا في كل سامر. ولو لم يخفف الله عنه هذه البلوى بحب عائشة بنت رشدين وصادق وفائها وحلو حديثها، وبإخلاص أخيها صالح وكريم حفاوته، وبمودة عبد العزيز الخزاعي، ورعاية إبراهيم العلوي، لبخع نفسه الحزن، ولقضى عليه الهم، ولذهبت نفسه في الهالكين. كان يحب عائشة، وكانت تحبه حبا عذريا قدسيا شريفا يناغم عزتها وكرم أرومتها، ويساوق شرفه وأنفته. وكان يزور بيت أخيها بين الحين والحين، فيجد في حنوها الجنة والنعيم، وكثيرا ما كان يضم المجلس الشريف إبراهيم العلوي والشاعر ابن أبي الجوع وشيخ العرب عبد العزيز الخزاعي .
Halaman tidak diketahui