ففي الناس بوقات لها وطبول - ليس في هذا تعريض بمعز الدولة بتاتا، وقد عهد الناس في الشعراء وألفوا منهم أنهم إذا مدحوا ملكا فضلوه على غيره من الملوك، والناس يعرفون هذا، ويعدونه من خصائص الشعر ومنادحه، ويعتقدون أن الشاعر لا يقصد مما يقول إلا المبالغة والإغراق. - أتظن هذا؟ - هذا ما يخطر ببالي كلما قرأت أبياتا من هذا القبيل. - وما قولك في هذين البيتين إذا وقد قلتهما في سياق مدح سيف الدولة؟
فوا عجبا من دائل أنت سيفه
أما يتوقى شفرتي ما تقلدا؟
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه
تصيده الضرغام فيما تصيدا - لا يا أبا الطيب، هذا تحد صريح، وتشهير بمعز الدولة، وتصوير مخز لضعفه، كيف ساغ لك أن تقول مثل هذا؟ وما لك وللديلم؟ - لا أدري، وإنما هو لساني الذي يسوقني إلى المهالك، أرأيت الآن أني لا أستطيع الرحيل إلى بغداد؟ وماذا بقي من أقطار العرب بعد مصر والشام والعراق، وقد تركت في كل منها جريمة شعرية تذودني عنها؟ - بقي الفاطميون بالمغرب. - للفاطميين عقيدة لا أسيغها، ولهم فلسفة لا أفهمها، على أني لا أستطيع الوصول إليهم إلا إذا اخترقت بلاد كافور، فأسقط هؤلاء من الحساب أيضا. - لم تبق إلا فارس ولكني لا أشير بها عليك. - وأنا لا أشير بها على نفسي، وإذا لم يبق أمامي بعد أن يئست من الملوك، وبعد أن سدوا أبوابهم دوني، إلا أمران لا ثالث لهما: إما أن أنزل من القمة التي صعدت إليها بعد جهد وكد، وأعود إلى ما كنت عليه في بداية أمري، فأستجدي بشعري صغار الناس وطغامهم، أمثال محمد بن زريق الذي وصلني على قصيدة بعشرة دراهم، فلما عاتبه صديق في قلة الجائزة مع حسن الشعر وجودته، قال له: «والله ما أدري أكان شعره حسنا أم قبيحا؟ ولكني أزيده لأجل خاطرك عشرة دراهم أخرى». وإما أن أعود إلى الكوفة فأقبع في داري، وأهجر الناس جملة، وأقيم بيني وبين الملوك وأشباه الملوك سدا، فقد كفاني ما لقيت منهم، وكفاهم ما لقوا مني، ولي الآن ثروة تكفل الراحة والنعيم وهناءة العيش. - مثلك لا يعمل الأولى ولا يستطيع الثانية، فلن تمد يدك إلى صغار الناس مستجديا، ولن تقبع في دارك خاملا متزاهدا، إنك الحركة الدائبة يا أبا الطيب، والطموح الوثاب، والهمة الغلابة، والعزم الفصال، إن مثلك لا يقبع في داره إلا إذا قبع الفلك الدوار، ووقف الليل وتعب النهار، وسلبت الأسود غرائزها، والسيوف مقاطعها، والسيول تهدارها، والجبال ركانتها وشموخها، وكيف تهدأ وفي نفسك نار لا تهدأ إلا بالتجوال، وفي صدرك أتون يغلي بمضطرب الآمال؟ وإنك لصادق حقا حينما تقول:
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه
ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلبا بين جنبي ما له
مدى ينتهي بي في مراد أحده
يرى جسمه يكسى شفوفا تربه
Halaman tidak diketahui