ولقد كان الناس قديما يوجهون دعواتهم عند رحاب أنصاب معظمة، أو أرباب مكرمة، ويقول المتدينون: إن الله يتقبل الدعوات إذا صدرت عن قلوب طاهرة، ليس فيها غل ولا دنس.
كم في الأرض من دعوة رفعت عن لسان والد يطلب الخير لذريته، أو نبي يطلب الغفران لملته، أو حاكم ينشد التوفيق لأمته، فهل من دعوة رفعت إلى الله من قلب نقي؛ ليصير السلم عاما والنار سلاما. •••
يقولون: إن بعد الشدة الرخاء. ولقد شهدنا شعوبا غرس الله بهم زرعا، وشاد بهم عمرانا وأقام لهم مجدا فحل بهم القضاء، وجرت في أوديتهم الدماء، وكم من قلب يرجو لو وضعت الحرب أوزارها فما لله لا يستجيب؟ ألأن قلوب البشر لم تزل غير نقية لا يرضيه دعواتها؟ •••
تداول الدعوات بين الناس نذير بأن القلوب تتهيأ للحب، ومتى ساد الحب القلوب، ساد الأرض السلام.
الكأس المرة
القاهرة في 9 من يونيه سنة 1915
قرأت في صحيفة من صحائفه ما يأتي: «كان الحر في ذلك اليوم شديدا. والسائر في أنحاء المدينة يستر وجهه من هبوب ريح سخينة محملة رمالا مصفرة يخشى الصدر أن يصيبه أذاها فيستنشق نصيبه من الهواء بتؤدة وأناة وكان الناس يحاربون هذا الوجود الشاق على الأجسام باستمرار المثلجات لترطيب دمائهم ترطيبا. ولما آذن النهار بالانصراف كأن ملائكة في السماء خلطت أنفاسها الطيبة في ذلك الجو فطفئ لهيبه شيئا فشيئا وترك القوم مضاجعهم إلى القهوات يستقبلون ليلة حلوة من ليالي القاهرة.
خرجت إلى القهوة في بدء المساء وكنت أكاد لا أجد لنفسي مكانا لوفرة الجالسين فانتحيت جانبا بين ذلك الجمع وكأنهم كانوا من الذين لم تحل بينهم هموم الأيام وصروفها وبين ساعة سرور تقضى في لذة الشراب.
الجعة الصفراء، مرغية، نقية، خالصة ينم عن برودتها بخار الماء المحيط بزجاج الكأس، ونسيم الليل المنعش يحمل رائحة حببها الخمرية إلى المشام ليثير رغبة الشاربين، ونور الغاز شديد يظهر صفاء تلك الكؤوس المرصوصة صفا صفا والساقون يروحون سراعا بأكواب فارغة ويعودون بها ملأى والبؤساء من صغار الباعة، أو السائلين ينسلون دون أن يشعر بهم أحد؛ لأن السقاة شغلوا بعملهم والناعمين يلهون بنعيمهم وكأن هؤلاء البؤساء كانوا رسائل من عند الله يذكرون بتفاوت حظوظ الناس.
لفت نظري رجل بائس واهن القوى. نحيل الجسم ضعيف البصر، يحمل على كتفه العانية فتاة توسدته فنامت، وأسدل شعرها أصفرا هملا جميلا على كتفيها الصغيرتين.
Halaman tidak diketahui