Peta Pengetahuan
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Genre-genre
منذ البداية، كان الفينيسيون مستقلين. وقد حولوا عزلتهم إلى ميزة بالابتعاد عن السياسة في البر الرئيسي، بينما ركزوا على التجارة والدبلوماسية. جغرافيا، كانت مدينتهم الآخذة في النمو في موقع ممتاز بين القوتين السياسيتين الكبريين في ذلك الوقت؛ الإمبراطورية البيزنطية شرقا، ومملكة الفرنجة غربا. في عام 814، أبرم سكان فينيسيا معاهدة عبرت بوضوح عن وضعهم. ربما كانوا أحد أقاليم الإمبراطورية الرومانية، ولكنهم، كانوا، في الوقت نفسه، يدفعون خراجا للفرنجة. كان يمكن لهذا أن يؤدي بهم إلى الحصول على أسوأ ما في الجانبين، ولكنه، في الواقع، وضع الفينيسيين في مكان مميز بين الإمبراطوريتين، والأهم أنه منحهم حقوقا تجارية وحرية استخدام الموانئ الإيطالية. في عام 1082، وسع البيزنطيون الحقوق التجارية الفينيسية، وأعفوهم من الضرائب والرسوم الجمركية في سائر أنحاء الإمبراطورية، وهو ما شكل لحظة حاسمة أخرى بالنسبة إلى النمو التجاري للمدينة. بحلول عام 1099، كانت توجد تجارة توابل مربحة مع مصر، وكانت فينيسيا في طريقها لإنشاء أنجح إمبراطورية بحرية عرفها العالم على الإطلاق.
كان الحكم المستقر الديمقراطي نسبيا والتنظيم الصارم والإخلاص المطلق للمدينة هي العناصر التي شكلت جوهر النجاح الاستثنائي الذي حققته فينيسيا. لم يكن الإخلاص عمليا فحسب، بل كان دينيا أيضا. آمن الفينيسيون بأن لمدينتهم جذورا إلهية، فوقروها، محققين مستويات مرتفعة ارتفاعا غير عادي من الولاء والتماسك الاجتماعي. بينما كانت بقية أوروبا ترزح تحت نير النظام الإقطاعي، الذي في ظله كانت العائلات النبيلة تمزق أوصالها وأوصال كل من حولها في صراعات عنيفة على السلطة، ازدهرت فينيسيا باعتبارها أول جمهورية في عالم ما بعد العصور القديمة. كان سكانها متحدين اتحادا وطيدا حول مشروع مشترك هو تمجيد مدينتهم المحبوبة، التي أطلقوا عليها لقب «أكثر الجمهوريات سكينة». نبعت هذه الوحدة من تحديات الحياة في البحيرة الشاطئية. أجبر الفينيسيون على العمل معا من أجل البقاء فحسب، من أجل التغلب على المشكلات التي واجهتهم جراء بيئتهم المتقلبة. وكان هذا الوجود المحفوف بالمخاطر يعني أنهم آثروا الاستقرار على كل شيء آخر، وخاصة فيما يتعلق بحكم المدينة. كان التنظيم والتعاون والسيطرة أمورا ذات أهمية جوهرية لبقاء الجميع، وسرعان ما نشأ إطار إداري، يشرف عليه الدوق والنبلاء؛ أعضاء العائلات المؤسسة للمدينة.
كبرت المدينة، ولكن ليس بالطريقة العشوائية التوسعية نفسها للمدن على البر الرئيسي؛ فكل صف جديد من المنازل، وكل قناة، وكل ميدان كان مخططا بعناية. وكشأن بغداد وقرطبة، وزعت فينيسيا أنواع الصناعة المختلفة على مناطق مختلفة؛ إذ كانت بنيتها القائمة على الجزر مناسبة تماما لهذا الشكل من تخطيط المدن، الذي كان أمرا مستحدثا في أوروبا في ذلك الوقت. من المحتمل أن يكون التجار، الذين زاروا تلك المدن وأعجبوا بتصميمها وتنظيمها، هم الذين جلبوا معهم هذه الفكرة إلى فينيسيا. أصبحت جزيرة مورانو مركز صناعة الزجاج عندما نقلت المسابك إلى هناك، في القرن الثالث عشر، لحماية المدينة من النيران؛ إذ شكلت الأفران الهادرة التي كانت تصهر الزجاج خطرا على مبانيها الخشبية المتراصة جنبا إلى جنب بإحكام. من القرن الثاني عشر فصاعدا، كان الركن الشمالي الشرقي من المدينة مقرا للترسانة (من العبارة العربية «دار الصناعة» وتعني «مكان الإنشاء»)، ساحة السفن الفينيسية، حيث كانت تتراوح أعداد العمال بين 6000 و16 ألف رجل، الذين كانوا يشتغلون ببناء السفن من كل نوع، والتي كانت تباع وتبحر حول العالم. كان هذا بمنزلة القوة المحركة للإمبراطورية الفينيسية، ومنشأ أسطولها البحري، أسطول سفنها التجارية والحربية التي كانت القوى الكبرى تشتريها بتلهف طوال حقبتي العصور الوسطى وعصر النهضة. وجاء أعظم تحد واجهته الترسانة في عام 1204، عندما وافقت الدولة الفينيسية على تجهيز الحملة الصليبية الرابعة بأكملها ؛ الأمر الذي كان يعد مخاطرة مالية هائلة، ولكنها مخاطرة آلت إلى خير في النهاية. فقد استرد الفينيسيون السيطرة على مدينة زارا، التي تعرف الآن باسم زادار، ودفع لهم قادة الحملة الصليبية أموالهم كاملة، حتى إنهم تمكنوا من تدبير أمر إعادة توجيه الحملة ضد القسطنطينية نفسها، وما نتج عن ذلك من نهب للمدينة، قاده الدوق الأعمى الشهير، إنريكو داندولو، الذي زود المدينة بقدر هائل من المال وأكوام من القطع الأثرية التي لا تقدر بثمن، وفي ذلك أربعة خيول برونزية استنسخت وموجودة الآن في واجهة كنيسة بازيليكا دي سان ماركو؛ والخيول الأصلية محفوظة بالداخل لوقايتها من تقلبات الأحوال الجوية.
شكل 8-1: خريطة لفينيسيا في القرن الثاني عشر، وفيها اتجاه الشرق إلى الأعلى.
ولعل من غير المستغرب أن فينيسيا، التي أسسها أناس مبعدون، لها تاريخ في الترحيب بالغرباء، وأصبحت مقصدا للحجاج والسياح على السواء منذ وقت مبكر. فقد فتح السكان المحليون الذين كانوا يتحلون بروح المبادرة خانات مثل «لوبستر»، «لونا هوتيل» و«ليتل هورس»، وقدموا خدماتهم بوصفهم مرشدين في ميدان سان ماركو، حيث كان أصحاب الأكشاك يبيعون الوجبات الخفيفة والهدايا التذكارية، مثلما يفعلون اليوم. في وقتنا هذا، تعد السياحة الصناعة الأكبر (والوحيدة، من عدة وجوه) في المدينة. يأتي نحو ثلاثين مليون شخص كل عام، إلى مدينة يبلغ تعداد سكانها 54 ألف نسمة فقط؛ مما أكسب فينيسيا سمعة باعتبارها ديزني لاند إيطاليا. يأتي الزوار ليتأملوا متعجبين المدينة العائمة، ذات الطرق العامة المائية والجمال الآسر. عند الوقوف في متحف «جاليريا ديل أكاديميا»، أمام لوحة من عصر النهضة للمدينة، سيذهلك ضآلة التغيير الذي حدث لها. فالعمارة والجسور وزوارق الجندول تبدو كما هي؛ وباستثناء الملابس المنمقة، الاختلاف الملحوظ الوحيد هو أن أطباق الأقمار الصناعية قد حلت محل المداخن الكثيرة على أسطح المباني. تبدو فينيسيا كأنما توقف عندها الزمن، وكأنها مدينة ترفيهية تاريخية لا يقحم العالم الحديث فيها نفسه كثيرا، مكان يسود فيه الجمال والقدم، حيث تهالك المباني نفسه مشبع بالعظمة. كثير من السياح المعاصرين هم فقط من زوار اليوم الواحد، حيث يصلون على سفن سياحية يسمح لها بالرسو في البحيرة الشاطئية، وهو أمر مثير للجدل. ففي العصور الوسطى، كان الزائرون يمكثون وقتا أطول كثيرا، وغالبا ما كانوا يستقرون ويجعلون فينيسيا موطنهم لسنوات عديدة، وكان يشجعهم على ذلك أجواء التقبل والبيئة التجارية المواتية التي تتسم بها المدينة. في القرن الثاني عشر، بدأ تدفق مستمر من التجار الألمان في الوصول، حيث أقاموا في منطقة مزدحمة بالقرب من جسر ريالتو، حيث بنوا، في عام 1228، مقرهم الرئيسي، المعروف باسم «فونداكو دي تيديسكي». كان هؤلاء الشماليون المغامرون جزءا من موجة من المهاجرين أحدثت تضخما في تعداد فينيسيا، الذي كان قد وصل، بحلول عام 1300، إلى 120 ألف نسمة.
1
الجالية الكبيرة الأخرى كانت اليونانيين، الذين أتوا للعيش والتجارة في فينيسيا بأعداد كبيرة، وجلبوا معهم ثقافتهم القديمة ولغتهم، والأرجح أنهم كانوا أحد الأسباب وراء مجيء الشاعر والعالم بترارك إلى فينيسيا في عام 1351. أراد أن يتعلم اليونانية حتى يستطيع ترجمة النصوص الكلاسيكية القديمة التي كان قد جمعها في أسفاره، والتي من شأنها أن تقدم أساسا للحركة التي أصبحت تعرف باسم الإنسانية. كان بترارك صديقا للدوق، أندريا داندولو (1306-1354)، الذي ينسب إليه فضل المساعدة في إطلاق عصر النهضة في فينيسيا بتاريخه المشرق بفضل بحوثه الوافية عن المدينة، وحظي الرجلان بعلاقة فكرية مفعمة بالحيوية. بعد مغادرة بترارك للمدينة، استمرت هذه العلاقة عن طريق الرسائل، وهي مراسلات تابعها أمناء داندولو بعد وفاته؛ إذ كانوا حريصين بشدة على مواكبة التطورات البحثية العلمية في بقية إيطاليا، حتى إنهم أقنعوا بترارك بالعودة إلى فينيسيا، آملين في أن يترك مجموعته التي لا مثيل لها من الكتب للمدينة عند وفاته. لسوء الحظ، أفسد الخطة جدال حول المنطق الأرسطي مع بعض من النبلاء الفينيسيين. فحمل بترارك الغاضب مخطوطاته في مركب وأبحر عائدا إلى البر الرئيسي، ولم يعد أبدا.
كان بترارك من الآباء المؤسسين لعصر النهضة في إيطاليا، ملهما الجيل التالي أن يجمع المخطوطات وأن يشجع طلب العلم بأي وسيلة ممكنة، وكان يتراسل مع باحث شاب يدعى كولوتشيو سالوتاتي (1331-1411) ويشجعه ، فمضى سالوتاتي في إنفاق قدر كبير مما كان يجنيه من عمله، بصفته مستشار فلورنسا، على مجموعة تتألف من 800 مخطوطة؛ كانت إحداها هي الترجمة اللاتينية لكتاب «المجسطي» التي أوردناها في معرض حديثنا عن صقلية. كان سالوتاتي هو من أرسى فلورنسا مركزا للحياة الفكرية في إيطاليا في القرن الرابع عشر، والسوق الرئيسي للنصوص الكلاسيكية؛ ففي العام 1396، دعا سالوتاتي الدبلوماسي البيزنطي مانويل كريسولوراس للمجيء وتعليم اللغة اليونانية في المدينة؛ وهي المرة الأولى التي أتيح فيها دراسة اللغة باعتبارها مادة أكاديمية منذ أكثر من ألف عام.
1
كذلك كان لدى سالوتاتي من بعد النظر ما جعله يكتب إلى كريسولوراس ويطلب منه أن يحضر معه أكبر قدر يمكنه إحضاره من المخطوطات اليونانية من القسطنطينية. أمضى كريسولوراس ثلاثة أعوام فقط في فلورنسا، ولكن تعليمه، الذي كان ممتازا، بناء على رسائل المديح التي تلقاها، لم يكن له أثر هائل على طلابه فحسب، بل أيضا على الأجيال المستقبلية التي استخدمت كتابه المدرسي لقواعد اللغة اليونانية. مثلت القواميس وكتب القواعد النحوية وغيرها من وسائل المساعدة اللغوية جانبا حيويا من جوانب انتشار العلم في هذه الفترة؛ إذ كانت ميزة هائلة لأي شخص يحاول أن يتعلم لغة جديدة أو أن يترجم مخطوطا. في السابق، لم يكن بمقدور أحد سوى المعلم أو المترجم (كما كان سائدا في طليطلة وصقلية) أن يقدم هذا النوع من المعرفة. ركز الجزء الثاني من منهج كريسولوراس على الترجمة من اليونانية إلى اللاتينية، وتحاشى أسلوب الترجمة الحرفية التي كان يتبعها المترجمون الأقدم أمثال جيرارد الكريموني، مفضلا، عوضا عن ذلك، التركيز على معنى النص.
Halaman tidak diketahui