Peta Pengetahuan
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Genre-genre
قام مئات من الباحثين والحجاج بالرحلة الطويلة الشاقة نحو الشرق إلى شبه الجزيرة العربية والعراق، جالبين معهم أفكارا وكتبا جديدة عند عودتهم إلى الأندلس. وفي عشرينيات القرن التاسع، عرفت الأندلس مذهب المعتزلة عن طريق الباحثين الذين تعرفوا عليه في العراق. وإذ كانت تعاليمه منتشرة، انفتح المفكرون الأندلسيون على فكرة أن المنطق الإغريقي يمكن استخدامه إطارا للتحقيق في المسائل الفلسفية، ضمن سياق إسلامي. وكانت هذه بداية التقليد الذي أنتج باحثين شتى خلال القرن التالي، من بينهم أول فيلسوف أندلسي، وهو محمد بن مسرة الجبلي (883-931). كان والد الجبلي قد سافر شرقا في منتصف خمسينيات القرن التاسع وتعلم الأفكار المعتزلية في البصرة، وجلب معه عند عودته كتبا تتناول هذا الموضوع. في ذلك الوقت، كان يسيطر على الأندلس المحافظون الدينيون؛ لذا كان على هؤلاء الباحثين المعتزلة الأوائل أن يكونوا حريصين على ألا يلفتوا انتباه السلطات أكثر من اللازم؛ إذ تعرض بعضهم للاضطهاد وأحرقت كتبهم. ورغم أن مذهب المعتزلة كان في الخفاء في البداية، فإنه ساعد على جلب المعرفة الكلاسيكية القديمة إلى الأندلس، لتبلغ أشدها أثناء القرن التالي، في ظل الحكم المستنير لعبد الرحمن الثالث والحكم المستنصر بالله الثاني؛ مثلما حدث في ظل حكم المأمون في بغداد.
فتح عبد الرحمن الثاني، الذي حكم بغداد من سنة 822 إلى 852، طرق التجارة في منطقة البحر المتوسط عن طريق إقامة تحالفات مع البيزنطيين في القسطنطينية. فزاد هذا من فرص التجارة في المنتجات الأندلسية والمعادن والمنسوجات؛ مما أحدث ثراء ضخما وربط الجزيرة بالعالم الأوسع. كذلك كان عبد الرحمن راعيا سخيا للبحث العلمي وبذل كل ما في وسعه لتحفيز النشاط الفكري في قرطبة. بحلول منتصف القرن التاسع، كانت الثقافة العربية آخذة في الازدهار؛ كما يتضح من شكاوى الباحث المسيحي ألفارو القرطبي (بول ألفاروس)، الذي تحسر على وقوع المسيحيين الشبان في حب اللغة العربية وشعرها: «قرأ كل المسيحيين الشبان الموهوبين الكتب العربية ودرسوها بحماسة؛ إنهم يجمعون مكتبات ضخمة بتكلفة هائلة ... ونسوا لغتهم الأصلية.»
5
كانت تلك اللغة، بالطبع، هي اللاتينية، التي كانت تختنق ببطء جراء الافتقار إلى الأفكار والضمور الديني بينما تغلبت اللغة العربية؛ إذ كانت لغة مذهلة، شعرية، لغة المستقبل، لغة العلم. ولا عجب في أن المسيحيين الشبان كانوا حريصين على تعلمها والمشاركة في الثقافة الجديدة المثيرة التي بدلت حال مدينتهم. فصاروا يعرفون باسم «المستعربين»، العرب المسيحيين، وازدادوا ليصبحوا جالية ضخمة ومؤثرة، منتشرة عبر الأندلس.
شكل 4-3: مشهد لجسر روماني على نهر الوادي الكبير وقرطبة على الضفة اليسرى. يرى سقف الكاتدرائية واضحا أعلى مسجد قرطبة «لا مسكيتا»، بينما يمكن رؤية حافة برج كالاهورا على يمين الصورة على الناحية المقابلة من الجسر.
في الوقت الذي كان فيه المسيحيون المحافظون، مثل ألفارو، الذين صاروا في ذلك الحين مواطنين من الدرجة الثانية، يشعرون بأنهم مهمشون ومهددون في مجتمع قرطبة المتعدد الثقافات، الذي يهيمن عليه المسلمون، كان العكس صحيحا في حالة الجالية اليهودية السفاردية الضخمة. فبعد أن تحملوا اضطهاد القوط الغربيين، انتعشوا في ظل النظام الجديد المتفتح نسبيا، الذي سمح لهم ببناء المعابد اليهودية والعيش في سلام في الحي اليهودي من المدينة، الذي كان واقعا شمال «ألكازار» مباشرة. على عكس المسيحيين الذي كانوا قد فقدوا مركزهم المهيمن لصالح العرب المستوطنين والإسلام، كان اليهود معتادين على الاحتفاظ بلغتهم الخاصة، وعقيدتهم الخاصة، ومجتمعهم الخاص إلى جانب لغة البلد الذي كانوا يعيشون فيه وعقيدته ومجتمعه. اعتنق الشباب اليهودي أيضا اللغة والثقافة العربية، وأتاح لهم تسامح المجتمع الأموي النجاح في مجالات كثيرة من الحياة العامة والارتقاء بقدر ما مكنتهم مواهبهم. لعب الباحثون اليهود دورا أساسيا في نقل العلم في القرون اللاحقة، بينما بقيت جاليتهم ركيزة من ركائز الحياة المدنية في قرطبة. وقد تغلغلوا بشكل خاص في مجال الطب؛ إذ كانوا يشكلون ما يصل إلى خمسين بالمائة من الأطباء في إسبانيا، بينما كانوا يمثلون فقط 10 بالمائة من تعداد السكان عموما.
في ذلك الوقت تقريبا بدأت الأفكار العلمية في الوصول من الشرق بأعداد كبيرة. فكما رأينا سابقا، مع بداية القرن التاسع، كانت الفترة العظيمة للترجمة ماضية قدما في بغداد وكانت تجارة الكتب الإسلامية تشهد ازدهارا كبيرا. أسس خليفة عبد الرحمن الثاني، محمد الأول، الذي حكم خلال الفترة من سنة 852 إلى 886، مكتبة ملكية كانت هي أكبر مجموعة كتب في ذلك الوقت، وأنفق صفوة الأندلسيين آلاف الدنانير اقتداء به. كان سوق الكتب مزدحما بالرجال الأثرياء الذين يبحثون عن أفضل المجلدات ليملئوا أرفف مكتبتهم. ومع ذلك، لم يمثل هذا أمرا جيدا بالنسبة إلى الباحثين؛ الذين اشتكى أحدهم، عندما ظهر كتاب كان قد أخذ يبحث عنه طيلة شهور في مزاد، من أنه وجد نفسه محاصرا في حرب للمزايدة. فقد ارتفع السعر عاليا جدا حتى إنه اضطر للاستسلام وخسر الكتاب، وتحولت خيبة أمله إلى غضب عندما أقر الرجل الذي تفوق عليه في المزايدة بأنه لم يكن لديه أي فكرة عما يتناوله الكتاب؛ إذ كان ببساطة «متلهفا لإكمال مكتبة أنشئها، الأمر الذي سوف يمنحني سمعة طيبة وسط زعماء المدينة».
6
كان النزاع الأزلي بين الهواة الأثرياء والباحثين المعدمين قد وصل إلى الأندلس. لا توجد معلومات محددة كثيرة في المصادر عن الكيفية التي وصلت بها الكتب المفردة إلى هناك، ولكن شاعرا وقاضيا يدعى عباس بن ناصح، عاش في مصر والعراق سنوات كثيرة، يذكر بوصفه كان يجلب الكتب من الشرق إلى عبد الرحمن الثاني في قرطبة. إنه مثال، مجرد مثال واحد، لكن لا بد أنه كان يوجد كثيرون مثله؛ رجال إما قدموا نصوصا على هيئة هدايا عندما وصلوا إلى الأندلس، وإما باعوها إلى الباحثين وجامعي الكتب. رجل آخر من المؤكد أنه جلب معه كتبا لدى عودته من العراق هو عباس بن فرناس، الذي يعد أيضا أول شخصية عظيمة في مجموعة الباحثين الأندلسيين العظماء. كان لدى هذا الرجل، الذي كان بمنزلة «ليوناردو دافنشي إسبانيا الإسلامية»،
7
Halaman tidak diketahui