وقعت هذه الكلمة «خليلتي» على أذن جهان وقوع الصاعقة، خليلة الألماني حظيته، يا لها من كلمة تحول دمها إلى لهيب عندما تفتكر بها! أهذه غاية طموحها؟
قالت هذا وهي لم تزل تنظر إليه بعين تقدح نارا، وتابعت كلامها: حظية سرية، ولقد هجرت الاثنين: الأمير، والقصر، لاعنة كلاهما، والآن يجيئها هذا الرجل فيقترح عليها أن تكبل بنفس القيود، وأن تقبل بذات العار، ولقد جال بفكرها أمر واحد أكثر من مرة أثناء الحديث وهو أن تخبره أن ما تريده منه حقيقة هو ولد، وأن حفلة زفاف على الطقوس المسيحية أو الإسلامية لا تأتي بنفع يرجى؛ لأن كلاهما يختلف مذهبا، ولا يمكن أن يعتنق الواحد مذهب الآخر بإخلاص حقيقي، وما ذلك إلا تمويها وغشا، إما سلمته نفسها تتميما لغرض كان يجول في صدرها، فذلك حسبها، وبه مناها ورضاها، وتبقى القرابة بينهما مقدسة، ولئن تكن قصيرة، إما حليلة حظية! لا سمح الله! ونهضت من على الديوان ووجهها مضطرم غيظا وحنقا. - عقيدتي بالزواج أسمى مما تظن يا حضرة الجنرال.
قالت هذا متطلعة فيه وجها لوجه. - ولكن هذا ما يعني «بحرية الزواج» الأوروبي العصرية. - وقد تجهل ما أعنيه أنا.
قالت هذا وهي لم تزل تنظر إليه بعين تقدح نارا، وتابعت كلامها: هذا من سوء حظي أيها الجنرال، وقد تجهله أنت أيضا يا حضرة الجنرال، فإن اقتراحك لا يليق بك، هو شائن معيب، وقد هدمت به أملي بك، وضربت اعتقادي الحسن بالألمان ضربة أليمة لا شفاء له منها. - ولكن إذا كنت لا ترغبين بي زوجا (قال هذا واقفا أمامها، ويداه مشبوكتان وراء ظهره) فلماذا لا ترغبين بي صديقا، إذا كنت لا تحبين أن تكوني زوجتي لم لا تكوني خليلتي؟ - أخالك تسألني هذا لقاء إنقاذك أبي من الموت، يا حضرة الجنرال فون والنستين إن في ابتغائك أن أضحي شرفي من أجلك أظهرت بأنك لست بشريف النفس والأخلاق.
وخرجت من البهو مسرعة حانقة قبل أن يفوه الجنرال بكلمة جوابا ...
ليس الجنرال فون والنستين من الرجال الذين يتبسطون بدخائل أنفسهم، ويدرسون نزعاتهم الباطنية درسا دقيقا، فهو إذا صمم على أمر سعى له بكليته دون أن يحاسب نفسه في المحلل والمحرم من وسائط الفوز فيه، وما هو من الذين يتغاضون عن أمر فيه امتهان شرفهم، أما شأنه وجهان فرأى أنه لمن الضعف أن يقف في منتصف الطريق فيه مهما كانت الأسباب والنتائج حسية أم وهمية، فقد نظر إلى الأمام بقدر ما تستطيع أن تصل إليه باصرته، ولكنه كان يفتقر إلى ذلك النور الداخلي، إلى تلك البصيرة التي تحسر نقاب الغوامض التي تزيح ستار المخبأ، وتكشف المخبأ من الأمور.
وما عسى أن يخبئ له هؤلاء الأتراك الذين أخطأ الظن بهم فخالهم رقيقي الجانب، سهلي المأخذ، ليني العريكة، أليفي التزلف والذل، منها أنهم من المقاومين إرادته، المنافسين في شئونه، المعرضين مقامه للذل والامتهان، ألعله يا ترى كان مخطئا بظنه بهم؟ أو لعل فيه ضعفا خفيا شجعهم على الغطرسة، وأيقظ فيهم طبيعة الغدر والجحود؟
وكان يتمشى في أرض الغرفة وهو يجاذب هذه الأفكار وتتجاذبه، وقد بلغ الاضطراب منه مبلغا عظيما بعد أن ذهبت جهان، فوقف لأول مرة موقف المرتاب بقوته، الناظر إلى عظمته وسؤدده، نظر من اعتاد النقد والتزييف، وهو يسائل نفسه قائلا: أويمكن أن تكون يا ترى عظمتي خارجية - عرضية وقتية - بنت ساعتها؟ أوليس فيها شيء طبيعي دائم قائم بنفسه يدور على محوره؟! كلها سطحية؟ أوليست هي جزءا من العظمة الألمانية؟ أو هل هي جزء من نفسي المتزعزعة؟ ليست قوة نفسية فردية، بل هي قوة الخداع في السيادة، في اكتساب عبودية الآخرين فقط، أليس فيها من السيادة الروحية ما يستميل إلى القلوب البشرية؟ أوليس لدي شيء من العظمة الحقيقية أو السيادة الروحية؟!
وقد هالته هذه الاستفهامات الإنكارية، وشق عليه أن يصدق ما تنبأ به في ساعة تجلت له نفسه مما فيها من الضعف والخلل.
أجل، أستطيع أن أقضي على حياة تركي متغطرس، ولكن من أين لي أن أجبره على الإذعان لمشيئتي؟ هو ذا الباشا العجوز قد أهانني في بيته، وذاك البك الأحمق جاء يخطف حياتي في بيتي، والآن قد رفضت هذه المرأة الشرف الذي أطرحه عليها، وتهينني فوق ذلك، وتنكر علي شرف النفس والأخلاق، إن هذا في الحقيقة لكثير على الجنرال فون والنستين احتماله، وستحاسب جهان على سوء أدبها وتمردها، إنها لن تكون زوجة ولا حظية؟ المرأة هي هي أينما كانت، فضلا عن أن هذه الولاعة التركية لأردأ طبعا من الفرنسوية، أو لعلها يا ترى تقاوم قوة وحشية فيه! إذا كان هذا فلتستعد للنقمة، فإنه لن يمهلها بين تدمي أصابعها ندما، ولقد أقسم أنها إذا أبت أن تكون زوجته أو حظيته فستكون عبدة رقة لشهواته ولو يوما واحدا، نعم إنها خارج الحريم، ولكنها ليست خارج العبودية التي ستحقق رغبته بها، أجل سيؤدبها، سيمتلكها سيذلها، فقد أصبحت الآن في قبضة يده، تحت رحمته، وسوف تعود إليه، ما زال أبوها سجينا حيا، فعليه إذن أن يرجئ محاكمته إلى أمد قصير، إلى أن ينال من جهان مرامه.
Halaman tidak diketahui