فالصبحُ مما سُلّ فيه واحدٌ ... والليل مما ثار فيه اثنانِ
والدهُ أخوفُ من به من فارس ... صبَّ الحِمام به على الفُرسان
إحسانُه للمجتدي وجنابُه ... للملتجي وذِمامُه للجاني
ناهيك يا قُطبَ الملوكِ من امرئ ... قطبَ النّهى بتنمّرِ الشّيْحانِ
تركت به الأعرابُ للتُرْكِ العُلى ... وتعلّلت بعُلالة السُقْبانِ
تخشى بوادرَهُ إذا ادّكرتْ له ... ما تمّ من دُكْر على بدران
أيامَ خفّضَ جدُّهُ من جدِّهم ... ما كان معتليًا على كيوانِ
أجرى دماءَهُمُ فسال بآمِدٍ ... منها ومن أمواهها مَدّانِ
تَهْمي على أعدائه وعُفاته ... بثوابه وعقابه سَجْلانِ
فسَحابُ ذاك بنانُه وسحابُ ذا ... تسديدُ كلِّ حنيّةٍ مِرْنان
أغليتَ كاسِدةَ المحامدِ فاغتدت ... بعدَ الكسادِ غواليَ الأثمان
ورفعتَ قدري عن ذويك مبجِّلًا ... حتى تمنّوا منك مثلَ مكاني
فاكفُفْ أياديَ لم أطِقْ شكرًا لها ... هل فيّ غيرُ إطاقة الإنسانِ
أسرفتَ في الإحسان حتى ما أرى ... إحسانَك الضّافي من الإحسان
هذا - لعَمري - مع مبالغته في المدح، أشبه بسلوك طريق القدح. وليس من الإنصاف، نسبة الممدوح الى الإسراف، وهو ذمٌّ في الحقيقة. قال الله تعالى في ذمّ فرعون: (إنّه كان عاليًا من المُسرِفين) .
وقوله: ما أرى إحسنك من الإحسان، وإن كان في أقصى غاية الحُسن، لكنّه معزيّ الى نوع من الهُجَن؛ فإنّه تصريح بكفران النّعم، الذي لا يليق بالكرم. وهو إنّما شرع مشرع المتنبي حيث قال:
حتى يقول الناس ماذا عاقلًا ... ويقولَ بيتُ المل ماذا مسلما
لكنّ أبا الطّيب أضافه الى قصور في الناس، وهذا أضافه الى نفسه.
وأرى غرامي يقتضي فُرقةً ... هي والرّدى من قبحها سِيّان
فإن استفدتُ الربحَ عندَك بُرهةً ... فالربحُ قد يدعو الى الخُسران
ليَطُلْ مدى يومي القصير فما غدًا ... إلا ردىً ألقاهُ أو يلقاني
أنأى وشخصُك في فؤادي شاهدٌ ... بالغيب حين يَغيبُ عن إنساني
يشير الى قول القائل:
إن كنتَ لستَ معي فالذّكرُ منك معي ... قلبي يراك وإن غُيّبتَ عن بصري
وتكادُ من حُبّيك كلّ جوارحي ... عند ادّكارِك أن تكون لساني
هذه القصيدة فريدة، رصّعت بها الكتاب، وخَريدة، أتحفت بمحاسنها الألباب، ولم أتجنّب مما أوردته منها الصواب، وراعبت حقّ الفضل، بالإطراء والعذْل، تحقيقًا لقضيّة العدل.
وهذه قصيدة أخرى، حقّها أن تحرّر بذوب اللُجين، على قرن الفرقدَين. مدح بها الأمير عز الدين، عماد الدولة، شرف الملوك، أبا العساكر، سلطان بن عليّ بن مُقلَّد بن مُنقِذ الكنانيّ؛ وأنشدها بشَيزَر سنة أربع وعشرين وخمس مئة:
لمعتْ وأسرارُ الدُجى لم تُنشَرِ ... نارٌ كحاشية الرّداء الأحمرِ
هذا مطلع، كأنّه للفجر مُطلِع.
وللأبيوردي ﵀ مطلع قصيدة، وافق هذا في الوزن والرّويّ واللفظ، وسأكتبها في موضعها إن شاء الله:
لمعت كناصية الحِصان الأشقر ... نارٌ بمعتلِجِ الكثيبِ الأعفرِ
تخبو وتوقدها ولائدُ عامرٍ ... بالمندليّ على القنا المتكسّرِ
ولست أدري أيهما أحسن وأجود.
رجعنا الى قصيدة العامريّ:
فعلمت أنّ وراءَه من عامرٍ ... غيْرانَ يفرَح بالنّزيلِ المُقتِرِ
يا أخت موقِدِها وما من مَوقِدٍ ... فوقَ الثّنيّةِ والكثيبِ الأعفرِ
لسواي عندي من سوامِكُم قِرىً ... وقِراي قُبلة ناظرٍ أو مَحجِرِ
وللأبيورديّ من تلك القصيدة، نسج على منواله:
يا أختَ مقتحِمِ الأسنّة في الوغى ... لولا مراقبةُ العِدى لم تهجري
هل تأمُرين بزورةٍ من دونِها ... حدَقٌ تشقّ دُجى الظلامِ الأخضرِ
وللعامريّ منها:
1 / 29