34
والحقيقة أنه ظل يعاني آلاما بارحة منذ منتصف ديسمبر، وحدث أن اشتدت عليه نوبة السعال في المصرف مرة فاستخرج منديله ليبصق فيه فما روعه إلا أن بصق فيه دما! ورمق البصقة الدامية بنظرة ذعر وارتياع، ثم دس المنديل في جيبه خشية افتضاح أمره، وغادر المصرف إلى عيادة طبيب أخصائي في الأمراض الصدرية ، وجلس بين المنتظرين يقلب بصره الزائغ في الوجوه الشاحبة والأجسام الهزيلة ويسعل مع الساعلين، واستولى عليه القلق والانزعاج، وتساءل هل يقع فريسة لذاك المرض الخطير الذي تقشعر لذكره الأبدان؟ وكان سمع مرة صاحبا يقول إن السل داء لا برء منه، فذكر قوله خافق الفؤاد، ولم يكن سبق أن أصيب بمرض عضال، فأشفق من أن يكون ذاك الداء الوبيل أولى تجاربه القاسية، واشتد به القلق في جلسته حتى تهيأ له أن يقتحم حجرة الكشف، ولكنه تصبر حتى جاء دوره فدخلها يقاوم جاهدا اضطرابه وانزعاجه، وألقى على أركان الحجرة نظرة عجلى خطفت العدد والآلات وأخيرا الطبيب العاكف على حوض صغير يغسل يديه، ثم انتظر واقفا، وجفف الدكتور يديه والتفت نحوه. كان قصيرا نحيفا دقيق الأعضاء، إلا أنه كبير الرأس أصلعه، واسع العينين جاحظ الحدقتين، حاد النظرة، فحياه الشاب برفع يده إلى رأسه، فقال له الرجل بصوت رفيع: أهلا وسهلا تفضل بالجلوس.
فجلس رشدي على مقعد كبير، ودلف الدكتور من مكتب أنيق وجلس أيضا وراءه واستخرج كراسة ضخمة وفتحها وسأل الشاب عن اسمه وصناعته وعمره ورشدي يجيب. ثم حدجه بنظرة الاستفهام التقليدية فأشار رشدي إلى صدره قائلا: أريد أن أكشف على صدري.
وما كاد يتم قوله حتى انتابه سعال عنيف، فانتظر الدكتور حتى أمسك واسترد أنفاسه وسأله: هل أصابك برد؟ .. متى؟ - أصبت بالأنفلونزا منذ أكثر من أسبوعين، وكانت حادة، والظاهر أني استأنفت عملي قبل أن أبرأ تماما، فلم يفارقني الإعياء، ثم كان هذا السعال العنيف فتدهورت صحتي.
وأسهب الشاب في وصف السعال وآلامه وعما فقد من وزنه، فقاطعه الدكتور متسائلا: ومتى بح صوتك؟
فأجاب الشاب: منذ أسبوع على الأقل.
فأمره أن يعري نصفه الأعلى، فقام الشباب، وأخذ في فك رباط رقبته ثم خلع السترة والقميص والفانلة، وتصدى للطبيب نضوا مهزولا، ووضع الرجل السماعة على أذنه وجعل يتلقى بها آثار نقر سبابته على الصدر والظهر، ولاحظ رشدي أنه كرر ذلك كثيرا على موضع في أعلى النصف الأيسر من الصدر، وطلب إليه أن يرتدي ملابسه ، ثم سأله: هل بصقت دما؟
فانخلع قلب الشاب، وتريث قليلا، ثم قال بصوت منخفض: نعم ... لاحظت ذلك مرتين أو ثلاث.
فجاء الطبيب بقنينة زرقاء وأمره أن يتنحنح بشدة ويبصق فيها، ثم مضت فترة وجيزة ورشدي منتصب القامة، ثقيل الأنفاس، كمتهم ينتظر النطق بالحكم، وقال الدكتور: إني أشك في وجود حالة ما في الرئة اليسرى، وليس من الحكمة الجزم بشيء الآن ولكن اذهب توا إلى الدكتور (...) ليصور صدرك بالأشعة وعد إلي بالنتيجة.
وحذره من أن يشق على نفسه بأي مجهود! ولكن رشدي لم يبرح موقفه وقد تجهم وجهه وغشيته كآبة ثقيلة، فاستطرد الدكتور قائلا: عسى أن أكون مخطئا! ولكن حتى لو صح ظني فالإصابة بسيطة.
Halaman tidak diketahui