فنبه ذكر «خان الخليلي» في قلب الكهل سرورا عميقا، وهز نفسه حنانا فقال: ستراه صباح مساء! - أكان الحال خطيرا لحد أوجب الهجرة؟ - نعم كان، وحسب كثيرون الغارات ستستمر بوحشية تودي بالقاهرة، كما أودت بلندن وروتردام ووارسو، ولكن الله سلم، وكان الوالد في إعياء خطير فلذنا بالفرار!
فهز الشاب رأسه أسفا، ولاحت منه التفاتة إلى الطريق فرأى ميدان الملكة فريدة والعربة تعبر جناحه إلى شارع الأزهر! فدعا منظره ذكريات مواعيد غرام لا تنسى، هفت على قلبه، كما تنسمت ريح على جمرات ناعمة، فابتسمت أساريره وهزه الطرب. ثم استطرد متسائلا: وكيف وجدتم المقام الجديد؟
لو طرح عليه هذا السؤال قبل لما وسعه الكلام ذما وقدحا، أما الآن! - انتظر حتى تراه بنفسك يا رشدي، وستألفه ولو بعد حين. - والجيران؟! - أوه ... غالبيتهم من أهل البلد ولكن كثيرين من سكان العمارات الجديدة من طبقتنا! - وهل وجدت فيه مكانا صالحا للتفكير والدراسة؟
فسره السؤال، كما ينبغي أن يسره كل ما يذكره بأنه «مفكر»، وقال: يقول المثل «البس لكل حال لبوسها» ولذلك تجدني أفضل أن أمضي أول الليل في القهوة مع بعض الصحاب الجدد، حتى إذا كف الراديو أو سكتت الضوضاء عدت إلى حجرة الدراسة!
فضحك رشدي قائلا: أعرفت أخيرا الطريق إلى المقاهي؟
فقال الأخ مبتسما: تلك مقتضيات المقام الجديد!
ووقفت العربة عند مدخل خان الخليلي، فغادرها الرجلان وتبعهما الحوذي حاملا الحقيبة، ولما ولجا التيه قال أحمد: انتبه جيدا إلى ما يحيط بك، واحفظ المسارب عن ظهر قلب وإلا ضللت في معارجها!
واقتربا من العمارة، ورأى أحمد أمه تطل من نافذة حجرته فلكز شقيقه في ذراعه مشيرا إلى النافذة، فرفع الشاب رأسه فوجد أمه وقد عصبت رأسها بمنديل بني وأخذت زينتها كأنما هي عروس تتصدى لعريسها، وما إن التقت عيناهما حتى فتحت له ذراعيها تدعوه إلى حضنها، وقبل فوات دقيقة كان بين ذراعيها البضتين في عناق حار.
17
وجلسوا جميعا حول المائدة - وقد جاء أبوه أيضا ولثم الفتى ظاهر يده - وأخذوا بأسباب الحديث في شوق ولذة، فتكلم الشاب عن أسيوط وأهلها والغربة والحنين إلى الأهل والوطن، وتكلم الأب عن الغارة والمشاعل التي أسقطتها الطائرات، وحدثته أمه عن جارتها والمعلم نونو وأزواجه الأربع، ثم لاحظت المرأة أن وزنه لم يزد رطلا واحدا، وانتقلت إلى الكعك فبشرته بأنه سيأكل كعكا لذيذا لن يذوق مثله أحد في مصر جميعا، ثم سارت أخيرا بين يديه إلى حجرته. وعندما خلا الشاب إلى نفسه لم يعد يحاول إخفاء استيائه فلاحت أماراته في وجهه الجميل، وقد انقبض صدره منذ رسم الخطوة الأولى على عتبة خان الخليلي، فلما دخل الشقة هاله ضيقها، وأيقن أنه لن يطمئن له جانب في هذا المقام الجديد، وضاعف من سخطه أن أصحابه جميعا في السكاكيني وما حوله وأنه سيرغم - بعد قضاء سهرته بينهم - على قطع طريق طويل إلى هذا الحي، ثم على التخبط في طرقاته الضيقة ليلا وهو ثمل! ونفخ من الغيظ، ووطن نفسه على حمل آله على العودة إلى بيتهم القديم أو إلى آخر قريب منه مهما كلفه ذلك. ثم فتح حقيبته واستخرج ما فيها، ومضى يهيئ صوان ملابسه مترنما - كعادته - بإحدى أغنيات عبد الوهاب، وغير ملابسه ثم غادر الحجرة إلى الحمام - وهو يواجه الحجرة على الناحية الأخرى من الردهة الطويلة الضيقة - فاستحم بالماء البارد ليزيل عن نفسه غبار السفر ونصبه، وعاد إلى حجرته أجمل منظرا وأطيب نفسا، وأغلق الباب وراءه - ليعلو صوته بالغناء إذا أراد - وفتح النافذة، ودهن شعره بالفزلين وسرحه بعناية فائقة، وتعطر برائحة البنفسج الأثيرة لديه فصار في أحسن حال، وانجذب نحو النافذة فدلف منها ليرى على أي منظر تطل، فرأى الممر الضيق في الأسفل يؤدي إلى خان الخليلي القديم، واعترض مدى بصره فيما يواجه جناح العمارة الثاني، فضاق صدره وخال أنه رمي به إلى أعماق سجن، أين من هذه النافذة نافذة حجرته بشارع قمر المشرفة على ميدان السكاكيني حيث لا تغيب عن عين الناظر أسراب ظباء اليهود، وتنهد محزونا، ثم أجال بصره فيما حوله، فانجذب البصر نحو نافذة تقابل نافذته من عل - على جناح العمارة المواجهة له - انفتحت على مصراعيها، وظهر فيها وجه فتاة، وجه حسن تزينه عينان تقطران خفة وسذاجة، فالتقت عيناهما، في نظرة إنكار من ناحيتها ونظرة تفحص - تفحص الصائد لصيد اعترضه - من ناحيته، ثم شق عليها تفحصه الثاقب فخفضت بصرها وتراجعت في استحياء، فابتسم ابتسامة رقيقة وانبسطت أسارير وجهه متأثرا بملاحة محياها وتحير نظرتها العذبة، ولم يزايل مكانه ولا حول عينيه عن النافذة منتظرا عودتها، لأنه من الطبيعي - في نظره - أن تحاول معاودة النظر إلى جارها الجديد ذي النظر العارم بغير تردد ولا حياء، ولبث على حاله من النظر والانتظار تحدوه رغبة وصبر وعناد، حتى ظهر رأس الفتاة مرة أخرى في حذر، فالتقت العينان خطفا، ثم تراجعت الفتاة فيما يشبه الضجر، فضحك ضحكة خافتة وتحول عن النافذة مبتسما راضيا، ثم جلس على كرسي مكتبه الصغير مغمغما: «هذا أول شيء حسن نصادفه في حينا البائس!» وتفكر قليلا وهو ينقر بإصبعه على مكتبه وقال لنفسه: «هي جارتنا بغير شك ... وحجرتها جارة لحجرتي!» واستدعى صورتها فأقر لها بالحسن والخفة، وسر بها سرور إنسان بشيء نفيس صارت ملكيته إليه، وكان في الحب ذا ثقة بنفسه لا حد لها، ثقة مرجعها السير من فوز إلى فوز، وبطانتها صبر طويل وإرادة لا تلين ولباقة في الطبع والصنعة، فربما صبر - دون أن يكف عن الإلحاح والسعي والمطاردة - يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وعاما - إن شئت - بعد عام حتى يظفر ببغيته. ومن أقواله المأثورة في الغزل: «لا يجوز لمن يتصدى للحب أن يعرقل «جهاده» بالحياء أو بالجزع أو بالخوف، انس كرامتك إذا كنت في أثر امرأة، لا تغضب إذا عنفتك ولا تحزن إذا سبتك، فالتعنيف والسب من وقود الحب، وإذا ضربتك امرأة على خدك الأيسر فأدر لها خدك الأيمن، وأنت أنت السيد في النهاية!» وقد حمله الهوى يوما على مغازلة فتاة شموس ذات صون وإباء فلما أن طال به المطال دون لين من جانبها أو ميل قال لها بهدوء: «أنا رذل سمج بارد لحوح، هيهات أن تقصيني نظرات التأديب أو كلمات التأنيب، كلا ولا الضرب ولا الشرطة، وسأرغمك على تكليمي اليوم أو غدا أو بعد غد أو بعد عام أو بعد قرن، فاختصري الطريق ما دامت النهاية محتومة!» هكذا كان. وقد جلس متفكرا يسائل نفسه: ترى أي نوع من الحسان هي؟ .. أجسورة مستهترة يشق على المغرم ترويضها؟ أم محنكة مجربة يستحيل اللعب بها؟ أم ساذجة حيية تجشم الصبر محبها؟ وما من شك في أن خان الخليلي يغدو محتملا لطيفا بفضل هذه الأنثى وشبيهاتها. ثم وضع راحتيه حول قذاله كمن ينوي الصلاة وتمتم قائلا: «بسم الله الرحمن الرحيم، نويت الحب، والله المستعان!»
Halaman tidak diketahui