ولم يعن أحمد بالمناقشة لأنه كان يتلقى رنوة ساجية من بين الجموع الغافلة، ولكنه لم يهنأ بها طويلا فإن صوتا غليظا صاح بقوة: «صه .. أزيز طيارة!» وساد على الأثر صمت شامل وأرهفت الآذان حتى صاح صوت آخر: «كلا .. هذه سيارة الشرطة.» فقال الأول: «بل أزيز طيارة .. اسمع!» وأنصتوا جميعا فترامى إلى الآذان أزيز طيارة حقا يهبط من جو سحيق، فاضطرب قلب أحمد وتحول بصره نحو والديه فرأى أمه مصوبة عينيها نحو سقف المخبأ وأباه مطرقا، ثم سمعوا طلقة مدفع مضاد بعيدة تلتها طلقات كثيرة متقطعة، وسكت الضرب لحظة ثم عاد أشد مما كان، واتصلت الطلقات واختلطت، فانتشر الذعر وثرثرت الألسنة في هذيان وقال واحد من الخائفين الذين يستجدون الطمأنينة: «هذا الضرب في ألماظة مؤكد» .. فارتاح كثيرون إلى تأكيده وأمنوا على قوله بغير وعي، وذهب إلى والديه وسأل أباه، وإن كان في مثل حاله من الذعر والاضطراب: «كيف الحال يا أبتي؟» فأجابه الرجل بصوت متهدج: «ربنا موجود.» واستمر إطلاق المدافع وتعددت مصادره؛ وجعل سيد عارف - على أثر كل طلقة مدفع - يذكر اسم الناحية التي أطلق منها كأنه الخبير العليم فيقول: «مدفع العباسية .. ألماظة .. بولاق .. وهذا مدفع القلعة ... إلخ إلخ.» ولما انطلق مدفع بعنف فاق ما سبقه شدة قال الرجل: «هذا مدفع ألماني ابتاعته الحكومة من ألمانيا قبل الحرب!» ولكن أخذ كثيرون يضيقون بالمتكلمين وينتهرونهم فاشتد اللغط، ثم جاءت لحظات أخرى عنف فيها إطلاق المدافع واتصل اتصالا مخيفا، فارتجت الأعصاب ووجبت القلوب، تلك لحظات قصار ولكن يقاس زمانها الثقيل بتردد الأنفاس وخفقان القلوب فكأن المرء يحمل الدهر على عاتقيه، ثم خف عنف الإطلاق رويدا، ثم لم يعد يسمع إلا في ناحية واحدة، ثم سكت آخر مدفع وأخلف السكون، ولم يدر أحد هل يستأنف الإطلاق أو انتهت عقوبة الليلة، إلا أن الأنفس أخذت تسترد من الراحة ما تبل به جوانح احترقت أو كادت، ومضت فترة وجيزة في سكون ثم انطلقت صفارات الأمان، فنهض القوم متشهدين، وأرسل أحمد عاكف ناظريه إلى هدفه المنشود فالتقيا بنظرة جادت بها له فسر بها سرورا مسح عن صدره الضيق آثار القلق والخوف، ورآها تسبق أسرتها نحو باب المخبأ حتى إذا بلغته عطفت رأسها نحوه ورمته بنظرة ذات معان ثم ارتقت السلم على عجل، فشعر الرجل - بقلبه الجذلان - أنها تدعوه إلى اللحاق بها. وللأعين كما للغرائز لغة سرية صامتة، فتولاه التردد والحياء، إلا أن مروقها إلى الخارج بث فيه شجاعة وقتية تغلب بها على تردده وحيائه، فاتجه نحو الباب سابقا والديه والخادم، وارتقى السلم متسائلا: ترى هل يجدها أمام الباب؟ وما عسى أن يقول أو يفعل؟ ولكنه رأى شبحها قد ابتعد عن مدخل المخبأ أذرعا في طريق البيت، ولم يكن في الطريق غيرهما فهما أول اثنين غادرا المخبأ، فإذا أوسع خطاه أدركها في أقل من الثانية وأمكنه أن يسايرها شارع إبراهيم باشا، وأن يرتقيا معا - منفردين - سلم العمارة. تخيل ذلك بسرعة ولكنه لم يكد يبدي حراكا، أو تحرك بالأحرى خطوات معدودة فاتسع ما يفصل بينهما من مسافة حتى باتت قريبة من مدخل العمارة، وغل الحياء والارتباك إرادته فجعل يتلفت خلفه كأنه يدعو والديه إلى اللحاق به لينقذاه من ورطته، وعبثا حاول أن يقاوم حياءه أو ارتباكه أو أن يجمع إرادته على اللحاق بها، فأدركه القادمون وما يزال موزع الفؤاد بين الخوف والرغبة، ثم اختفت الفتاة داخل العمارة، وانتهى الخوف والتردد والرغبة والأمل! ثم سار مع والديه يعالج في صمت حسرة أليمة منتزعة من صميم الضلوع، وطفق ينظر إلى السلم - وهم يرتقونه - بأسف ذاكرا أنه لو قهر خوفه لانفرد بها فيه - على أنه سأل نفسه «ماذا كنت أقول لها؟» .. هبه كان تشجع وحياها وردت هي تحيته بابتسامة أو كلمة أو إيماءة - بصرف النظر عن أن التحية في ذاتها مشكلة فلم يكن يدري ما الأوفق أن يقول: صباح الخير .. سعيدة .. السلام عليك ... إلخ؟! - هبه حياها وردت تحيته فماذا كان يقول بعد ذلك؟! .. أيصمت حتى يفترقا عند شقته؟ أم ماذا يقول العاشقون في أمثال هذا الموقف؟ ألا ما أكثر العاشقين! ولشد ما يتهامسون ويتناجون في الطريق والمركبات فكيف فقد النطق بلغتهم المحبوبة؟ .. وعاد إلى حجرته ممتلئا أسفا، بيد أنه كان على هذا فرحا مسرورا، بل كان ثملا بنشوة سرور لم تعهد القلوب ألذ منه، فمهما يكن من أمر نفسه فلا يمكن أن ينسى أنها رمته بنظرة نداء - وهي من معجزات السرور في شريعة العاطفة - وهي خليقة بأن يسر لها سرورا خالصا لا شأن له بحيائه ولا بحسرته! ولاحت منه نظرة إلى النافذة - وقد غدا يدعوها نافذة نوال - فحن قلبه المنتشي إلى أن يرسل بنظرة إلى الشرفة، ففتح النافذة ورفع رأسه فرأى لعجبه بابها مفتوحا ومصباح الحجرة مضاء، والفتاة واقفة على عتبة الباب! .. ما الذي دعاها إلى باب الشرفة في تلك الساعة من الفجر؟ .. وكان يرى شبحها من غير أن يميز معارف وجهها لوجود المصباح وراءها، وكذلك كان مصباح حجرته، فأيقن أنها لا ترى سوى شبحه - وشجعه ذلك على الثبات والتحديق فيها - ولم يمتد به الوقوف طويلا حتى فجأته بأسعد مفاجأة جادت بها حياته: فأومأت له برأسها تحية! .. وغمره الذهول، ولكنه لم يغلب على أمره هذه المرة فحنى رأسه ردا على تحيتها! .. وتراجعت الفتاة مسرعة حياء وأغلقت باب الشرفة - وهو ينظر - ثم أطفأ النور، ولبث الكهل بموقفه مدة من الزمن لا يدريها، ولا يدري بنفسه، ثم أغلق النافذة، وجثا على ركبتيه واضعا راحتيه على صدره، وهمس بصوت منخفض: «اللهم حمدا وشكرا!»
15
واستيقظ في صباح اليوم الثاني متعبا لأن لسرور - كالحزن - عدو للنوم قديم. بيد أنه استهان بتعبه لنشوة صدره وفرحة قلبه، وهل ظفر بمثل ذاك الصباح السعيد منذ عشرين عاما؟ فغادر البيت منشرح الصدر، بسام الثغر، خفاق القلب خفقان الشباب النضير، بعد أن أصبح أخيرا من الزمرة التي طالما رمقها الحسد والغيرة، زمرة المحبين المحبوبين! وصفا فؤاده ذاك الصباح فلم تنهشه آفة من آفات البغضاء، واستراح - ولو إلى حين - من أطياف إخفاقه الجاثمة في ظلمة ذكرياته كالخفافيش، فلم يتوثب لجدال ولا تحفز لمعارضة ولا تشاجر مع أحد الموظفين، وغمرت مستنقع المرارة الآسن المستقر في أعماقه موجة راقصة من الحبور.
وعند عودته ظهرا وجد خطابا في انتظاره، عرف خط صاحبه من أول نظرة ألقاها على الظرف، وهو جميل يشبه خطه من جميع الوجوه، فابتسمت أساريره، وفض الخطاب ثم قرأه حتى فرغ منه وقال: سيأتي رشدي أخي صباح نهار الوقفة.
فاستقبل الوالدان الخبر أجمل استقبال، وإن كانا يعلمان من قبل - بالبداهة - أن الشاب لا بد أن يمضي إجازة العيد في القاهرة، إلا أن الخطاب حوى أنباء أجمل مما توقع الوالدان فاستدرك أحمد يقول: ويقول رشدي إنه صدر أمر بنقله من أسيوط إلى المركز الرئيسي بالقاهرة، وسيتسلم عمله الجديد بعد عطلة العيد مباشرة!
وسر الوالدان سرورا كبيرا، وقالت الست دولت: سنستقبل عيدين سعيدين، لهفي على الغلام العزيز، كيف قضى ذاك العام وحده في أسيوط!
فابتسم أحمد قائلا: ادعي الله أن يكون تعود حياة غير الحياة التي أدمن عليها في القاهرة من قبل!
ثم أوى الكهل إلى حجرته وخلع ملابسه واستلقى على الفراش كعادته ليقيل حتى الأصيل أو حتى ميعاد الحب - كما ينبغي أن يسمى منذ اليوم - فشغله الخطاب ردحا من الزمن عن النوم وعن إحساسات اليوم السعيدة، وامتلأت نفسه بذكريات شقيقه الأصغر.
يندر أن يستثير إنسان من العواطف المتباينة ما استثاره رشدي عاكف في صدر أخيه الأكبر من علل السخط ودواعي الحب؛ فإنه طالما استوجب سخطه في الماضي منذ أجبره واجب كفالته على التضحية بمستقبله (وعبقريته!) ثم أسخطه في فتوته بتكالبه على الشهوات وإقامته على اللذات وإعراضه عن النصح. ولكنه من ناحية أخرى أحبه أكثر من أي شيء في الدنيا، أحبه لأن الشاب آثره بحب فاق ما يكنه لوالديه من الحب والإجلال، وذكر له دائما رعايته وكفالته أجمل الذكر، وأحبه لأنه صنعه بيديه، غذاه بروحه ورباه بماله فكان الشقيق الأكبر وكان الوالد الحنون؛ تمتع بطفولته؛ فحمله على يديه وعلمه النطق ودربه على المشي، ورعى صباه ووجه تعليمه ثم عد نجاحه بعد ذلك - بعد تعب ولأي وعثرات - ثمرة كفاحه، ومفخرة جهاده، ومذكرا دائما بتضحياته. وفضلا عن هذا جميعه، كان الشاب ذا شخصية خليقة بأن تحب، كان لطيفا خفيفا مرحا، ورث عن أمه تلك المقدرة التي تفتح له القلوب بغير جهد ولا تكلف، لما طبع عليه - كلاهما - من الجمال والصفاء والوفاء وحب العشرة والألفة، ولكن واأسفاه أخطاه الاعتدال والرزانة والحكمة، وجرت الحياة في أعصابه زاخرة جامحة، فاستأدته غرائزه الجهد الجهيد، ودفعته قفزا ووثبا بغير رادع، وقد كان منذ البدء جسورا مقتحما متمرسا بالحياة. ذلك أن الذي وكل رعايته - أخاه - ظل دائما مصفدا بأغلال التدلل والخوف، فمال إلى الاعتماد على الطفل الذي يربيه - فيمن يعتمد عليه - في قضاء حاجاته، وابتياع لوازمه واستعارة كتبه، فاكتسب الصبي خبرة بالدنيا واعتمادا على النفس وجسارة ورجولة، وصارت حاجة راعيه إليه لا تقل عن حاجته هو إلى راعيه، ولكنه عرف الدنيا وجال فيها بغير المبادئ الحقيقة بأن تعصمه من زلاتها، فمنذ أن أحيل عاكف أفندي على المعاش انطوى على نفسه تاركا أمر الأسرة لابنه وزوجه، ولم يجد رشدي في هذين العزيزين الحزم الذي يرشده ويعصمه، فضل السبيل وتخبط على غير هدى، ولولا دماثة خلقه، ورقة طبعه، لربما جاوز مفاسد الشهوات إلى مهالك الجرائم.
ولكم بشرت حياته المدرسية - في عهديها الأول والثاني - بالنجاح، حتى قال أحمد عاكف إن أخاه ورث عنه بعض صفاته العقلية! ولكن الحال تغير بعد أن صار طالبا بكلية التجارة، هنالك اعتوره الفساد، فانجذب نحو زمرة من الشبان ولهجوا جميعا بمعاقرة الخمر ولعب القمار والتخبط في بؤرة التهتك، واندفع مع التيار في جنون، فاستدان مرات، وأهمل حياته الدراسية حتى أوشك أن يفسد ما بينه وبين شقيقه، ثم بلغ ذروة جنونه حين فكر جديا أن يقطع حياته الجامعية ليتوفر على تعلم الموسيقى والاشتغال بالغناء - لا لشيء - إلا لما بلغه من بوهيمية المغنين وحظهم من ولع النساء، وما عهده في نفسه من رخامة الصوت وحلاوته، ونفد صبر أحمد عاكف فأنذره بالكف عن الإنفاق عليه إذا لم يمسك عما هو آخذ فيه من المجون والاستهتار، وبلغ منه الغضب أحيانا أن شعر بأنه يمقته مقتا، بل حقد عليه أخذه بأسباب حياة يعجز هو عن الأخذ بأسبابها، ويتلهف حسرة على ألوان منها! ورغم ذلك كله لم تنقطع صلات المودة بين الشقيقين بفضل مواهب الأصغر، فكان إذا شد أخوه أرخى، وإذا قطب ابتسم، وإذا سب ولعن تضاحك وقبل يده أو لثم كتفه، وإذا كور له قبضته مازحه في أدب ولين، ثم انتهت تلك الحياة بمعجزة، أجل انتهت بمعجزة والبكالوريوس، مما دعا أحمد على أن يقول متهكما: «هكذا يحصل الطالب على الشهادة التي تفضل الحكومة حامليها على أمثالي؟!» بيد أنه تنفس الصعداء، وأيقن أن مهمته قد انتهت، ولم يعد يشغل نفسه - أكثر مما ينبغي - باستهتار الفتى بعد أن صار المسئول الأول عن حياة نفسه، فصفا بينهما الجو، وعاد إلى الحب الذي لا تشوبه شائبة كما كانا من قبل - على عهد طفولة رشدي وصباه - بل رفعت الكلفة بينهما، فربما قص الفتى على شقيقه المحبوب ما يلقى من تجارب الهوى والحب، وكانت له في الهوى أهواء، وفي العشق فنون فعرف الحب الآثم والحب الطاهر! وتقلب في مظان السوء كما جرى وراء الحسان في السبل والميادين، وضم «ألبومه» صورا لفتيات حسان وقعن عليها بخطوطهن القلقة اللطيفة تلك العبارة الغربية: «إلى خطيبي العزيز رشدي!» ولم يكن يقصد العذارى بسوء، ولا كان يسيغ الغدر بيسر وسهولة، وحقيقة الحال أنه كان يقع سريعا فريسة لعواطفه المشبوبة، فليس أيسر من أن يصير عاشقا، بل وعاشقا بصدق وإخلاص، ولكن في الساعة التي هو فيها، فلم يحلف كذبا قط، ولكنه حنث بأيمانه مرات!
Halaman tidak diketahui