فقال الأب بحزم: هذا الحي في حمى الحسين رضوان الله عليه، وهو حي الدين والمساجد، والألمان أعقل من أن يضربوا قلب الإسلام وهم يخطبون ود المسلمين!
فابتسم أحمد وقال: وإذا ضرب خطأ كما ضرب السكاكيني خطأ من قبل؟!
فقال الرجل وقد ضاق صدره: لا تجادل في الحق، إني متفائل بهذا المكان خيرا، وأمك به راضية، وإن كانت ثرثارة لا تعرف الحمد والشكر، وأنت نفسك مطمئن راض، ولكنك تدعي حكمة زائفة، وتتظاهر بشجاعة كاذبة، هلم فاخلع ثيابك ودعنا نتناول غداءنا!
فابتسم أحمد، وتراجع إلى حجرته وهو يقول لنفسه: «صدق أبي.» وألقى على حجرته نظرة فاحصة، فوجدها قد وسعت أثاثه تحت ضغط محا ما كان لها من تناسق؛ فعلى الشمال الفراش، وعلى اليمين صوان الملابس، تليه المكتبة كدست على كثب منها الكتب، وكان بها نافذتان فرغب أن يلقي نظرة عجلى من كل منهما، فدلف من اليمنى وفتحها، وكانت تطل على الطريق الذي جاء منه، ومنها استطاع أن يتبين معالم الحي من عل، فرأى أن العمارات شيدت على أضلاع مربع كبير المساحة، وأقيمت في مساحة المربع التي تحيط بها العمارات مربعات صغيرة من الحوانيت تلتف بها الممرات الضيقة، فكانت نوافذ العمارات وشرفاتها الأمامية تطل على أسطح الحوانيت، وتأخذ نصيبها من الهواء والشمس، ولا يحجب عنها بقية العمارات حجاب، فكان الناظر من إحدى النوافذ الأمامية يرى مربعا كبيرا من العمارات ينظر هو من نقطة في أحد أضلاعه، ويرى في أسفله مربعات كثيرة من أسطح الحوانيت، تخترقها شبكة معقدة من الممرات والطرقات، ورأى فيما وراء ذلك مئذنة الحسين في علوها السامق تبارك ما حولها، فارتاح الرجل لانطلاق الفضاء أمامه لأن أخوف ما كان يخافه أن ينظر فلا يرى إلا جدرانا صماء، ثم تحول إلى النافذة الأخرى التي تواجه باب الحجرة وفتحها فرأى منظرا مختلفا، ففي أسفل طريق ضيق يوصل إلى خان الخليلي القديم مغلقة حوانيته فبدا مهجورا، وعلى الجانب الآخر من الطريق جانب من عمارة تواجهه نوافذها وشرفاتها عن قرب، ثم تبين له أن سطحي العمارتين متصلان في أكثر من نقطة، وأن أطباقهما المتقابلة متصلة كذلك بالشرفة مما جعله يحسب أنهما عمارة واحدة ذات جناحين، وفي الطرف الأيسر من الطريق يبدأ خان الخليلي القديم، وقد رآه الرجل من نافذته أسطحا بالية، ونوافذ متداعية، وأسقفا من القماش والأخشاب تظل الطريق المتشابكة، وفيما وراء ذلك تملأ الفضاء المآذن والقباب وقمم الجوامع وأسوارها، تعرض جميعا صورة من الجو للقاهرة المعزية، وكان يرى ذاك المنظر لأول مرة، فأكبره على نفوره من الحي الجديد، ومضى يسرح الطرف في مشاهده الغريبة المترامية، وهي مشاهد حقيقة بأن تدهش عينين لم تألفا غير الورق، ولا عهد لهما بآيات الطبيعة أو الآثار، على أنه لم يجد من الوقت متسعا، فما لبث أن سمع نقرا على الباب وصوت أمه يدعوه قائلا: الطعمية جاهزة يا سعادة البيك.
فأغلق النافذتين وخلع بذلته، ثم ارتدى جلبابه وطاقيته، وهو يدعو ربه قائلا: «اللهم اجعله سكنا مباركا.» إلا أنه - في نفس اللحظة - وقبل أن يفارق الحجرة جاءه صوت أجش من الطريق يصيح غاضبا: «الله يخرب بيتك ويحرق قلبك يابن ...» فرد صوت آخر بأقبح مما قذف به، مما دل على أن اثنين يتقاذفان بالسباب كعادة أهل البلد، فامتعض الكهل ولعنهما ساخطا وغمغم قائلا: «أعوذ بالله من الشؤم والتشاؤم!» ثم غادر الحجرة.
2
وأكل ألذ طعمية ذاقها في حياته، وأطراها بغير تحفظ، فسر أبوه وعد ذاك الإطراء إطراء للحي الجديد، فقال بحماس كبير: أنت لا تدري عن حي الحسين شيئا، فها هنا ألذ طعمية وأشهى فول مدمس، وأطعم كباب وأحسن نيفة وأمتع كوارع وأنفس لحمة رأس، هنا الشاي المنعدم النظير والقهوة النادرة المثال، هنا نهار دائم وحياة متصلة ليلا ونهارا ... هنا ابن بنت رسول الله وكفى به جارا ومجيرا.
ورجع بعد الغداء إلى حجرته، واستلقى على الفراش ينشد قسطا من الراحة، وقد أقر فيما بينه وبين نفسه بأن دواعي سروره بالحي الجديد لا تقل عن بواعث ضيقه به، وقلب عينيه في أنحاء الحجرة حتى استقرتا على أكداس الكتب المتراصة على كثب من المكتبة لم يهيأ لها التنظيم بعد، فثبت عليها بصره في ارتياح وسخرية، هذه كتبه المحبوبة، وجميعها باللغة العربية؛ لأنه - على عهد الدراسة - لم يصب تفوقا في الإنجليزية فأهملها مضطرا بعد ذلك وأنسيها أو كاد، وأكثر من ثلثها كتب مدرسية في الجغرافيا والتاريخ والرياضة والعلوم، وبها عدد لا بأس به من مراجع القانون ومثله من كتب المنفلوطي والمويلحي وشوقي وحافظ ومطران، ومجموعة الكتب الأزهرية الصفراء في الدين والمنطق تاه بصفرتها عجبا واعتبرها آية العلم العسير الذي لا ينفذ إلى حقائقه إلا الأقلون، وهي لا تخلو كذلك من بعض مؤلفات المعاصرين التي يعد اقتناءها تفضلا منه، هذه هي مكتبته المحبوبة أو هي جل حياته جميعا، كان قارئا نهما لا تروى له غلة، وقد أدمن على القراءة إدمانا قاتلا، وأكب عليها عشرين عاما كاملة من عام 1921 - تاريخ حصوله على البكالوريا إلى - عام 1941، فاستغرقت حياته الباطنة والظاهرة، وتركزت فيها مشاعره ونوازعه وآماله جميعا، بيد أنها امتازت منذ البدء بخصائص لم تفارقها مدى العشرين عاما، وهي أنها قراءة عامة لا تعرف التخصص ولا العمق، نزاعة إلى المعارف القديمة، سريعة مضطربة، ولعل السبب في عدم تركيزها ما كان من اضطراره إلى الانقطاع عن الدراسة بعد البكالوريا، مما لم يهيئ له فرصة منظمة للتخصص.
وكان لذلك الانقطاع آثار بالغة في حياته الاجتماعية والنفسية، لم ينج من شرها مدى الحياة، أما سببه؛ فهو أن أباه أحيل على المعاش في ذاك الوقت - وكان يشارف الأربعين - لإضاعته عهدة مصلحية بإهماله، وتطاوله على المحققين الإداريين. فأجبر أحمد عاكف على قطع حياته الدراسية والالتحاق بوظيفة صغيرة لينفق على أسرته المحطمة ويربي أخويه الصغيرين اللذين مات أحدهما، وصار الثاني موظفا ببنك مصر وكان أحمد طالبا مجدا طموحا واسع الآمال، رغب من أول الأمر في دراسة القانون، وطمع في أن تنتهي به دراسته إلى مثل ما انتهت بسعد زغلول نفسه؛ وطوحت به الأحلام والأماني، فلما أجبر على الانقطاع عن الدراسة أصابت آماله طعنة قتالة دامية، ترنح من هولها، واجتاحته ثورة عنيفة جنونية حطمت كيانه، فامتلأت نفسه مرارة وكمدا، ووقر في أعماقه أنه شهيد مضطهد، وعبقرية مقبورة، وضحية مظلومة للحظ العاثر وما انفك من بعد ذلك يرثي عبقريته الشهيدة ويحتفل بذكرها لمناسبة وغير مناسبة، ويشكو حظه العاثر ويعدد آثامه، انقلبت شكواه فصارت هوسا مرضيا، واعتاد زملاؤه أن يسمعوه وهو يقول بصوته المتهدج: «لو أتممت دراستي - وكان نجاحي مضمونا - لكنت الآن كيتا وكيتا!» أو يقول متحسرا: «إني أدنو من الأربعين، فتصور يا صاح لو أن الحياة سارت كما ينبغي، فلم يعترض مجراها الحظ العاثر، أما كنت أكون محاميا قديما يعتز بخدمة في القضاء تناهز العشرين عاما؟! وماذا كان ينتظر من رجل في مثل جدي في غضون عشرين عاما؟!» وربما قال متأسفا: «فاتتنا ظلما أخصب فترة في تاريخ مصر، تلك الفترة التي تستهين باعتبارات السن والجاه الموروث، ويقفز فيها الشبان إلى كراسي الوزارة.» ولم يكن يفوته تتبع خطى المتفوقين من أقران المدرسة الذين واصلوا دراستهم، وليس نادرا أن يرفع رأسه عن جريدة بين يديه، ويقول بإنكار: «أتعرفون فلانا الذي يقولون عنه ويعيدون؟ .. زاملني عهد الدراسة فصلا فصلا، وكان تلميذا خاملا لا يطمع أن يدركني يوما ما!» أو يهتف متهكما «يا ألطاف الله! .. وكيل وزارة! .. ذاك الغلام القذر الذي لم يكن يعي مما يلقى عليه شيئا؟! هي الدنيا!» ثم يروح محدثا إخوانه بأي نبوغه المدرسي، وما تنبأ له به المدرسون، هكذا تلوثت عواطفه بتمرد ثائر وسخط خبيث وكبرياء حنق، واعتداد كاذب بمواهبه، مما جعل حياته عذابا متصلا وشقاء مقيما، ثم وجدت هذه العبقرية المزعومة نفسها مهملة في الدرجة الثامنة بمحفوظات وزارة الأشغال، ولكنها لم تسكن، ولم تستسلم، ولم تيأس، ومضت تلتمس السبيل إلى تحطيم الأغلال، وشق الطريق إلى الحرية، والمجد والسلطان، وكابدت التجارب، وتوثبت للمحاولة تلو المحاولة، وقد فكر أول ما فكر في التحضير - من بيته - لشهادة القانون، فهو العلم الذي انجذبت إليه آماله من بادئ الأمر، ولم يكن عن الشهادة من محيد، لأن المحاماة لم تعد اجتهادا كما كانت على عهد سعد والهلباوي، فراح يقتنى الكتب القانونية، ويستعير المذكرات، وأكب على الدارسة عاما مدرسيا كاملا تقدم في نهايته إلى الامتحان، ولكنه سقط في مادتين! وطعن كبرياؤه طعنة نجلاء، وأخرج أمام الذين تتبعوا أنباء عبقريته باهتمام، وجعل يعتذر عن إخفاقه بوظيفته، وبادعاء مرض وهمي أقعده عن مواصلة الدرس، ولم ينثن عن ادعاء المرض بعد ذلك على سبيل الاحتياط والحذر، وخاف أن يجرب الامتحان مرة أخرى، وأشفق من تعريض عبقريته للتجارب الظاهرة التي يطلع الناس على نتائجها فمال إلى العمل الحر، وبادر بإعلان احتقاره للامتحانات والشهادات، ثم أقنع نفسه بأن إخفاقه في امتحان القانون جاء نتيجة لعدم استعداده له - لا لتقصير أو قلة كفاية - وعدل عند ذاك عن دراسته ليجد المجال الطبيعي الذي خلقت له عبقريته الشهيدة، وهكذا خسر عاما وربحت مكتبته عددا لا يستهان به من كتب القانون، ثم فكر في تكريس حياته للعلم، وتحير بين الأبحاث النظرية والاختراعات العلمية أيها يختار! ثم أقلع عن فكرة الاختراع بحجة أن البلد خال من المصانع والمعامل، وهي ميادين التجارب، ومهبط الوحي الإبداعي، وركز آماله في العلم النظري، وطمع في أن يكتشف نظرية يوما ما يغير بها آفاق العلم الحديث، ويقفز إلى سماء الخلود بين نيوتن وأينشتين، وتوثبت به الهمة، فراح يبتاع ما وقعت عليه يداه من ملخصات الطبيعة والكيمياء، ويطالعها باهتمام وشغف، وبعد دراسة عام طويل وجد نفسه حيث بدأ لم يتقدم خطوة نحو هدفه البعيد، ثم اقتنع بأن التعمق في العلم يتطلب دراسة تحضيرية لم تتح له.
وغلبه الجزع وكثيرا ما يغلبه، فيئس من الدراسة العلمية النظرية، وسوغ يأسه نفسه بأن البحث النظري ليس دون الاختراع حاجة إلى المعامل ومعاهد الأبحاث، وأن جو مصر بصفة عامة لم يتهيأ بعد للعلم، ولم يجد ضرورة للاعتذار هذه المرة عن إخفاقه للغير، لأنه كان تعلم أن يخفى أهدافه عن الناس جميعا، بيد أن ذلك لم يمنعه من أن يذيع بين الزملاء والصحاب أنه يكرس وقت فراغه للمعرفة والاطلاع ... المعرفة الحرة التي تسمو على الدراسة المدرسية والشهادات الحكومية، والاطلاع العميق الذي يجعل من صاحبه عالما بعيد الغور، وضاع عام ثان زادت فيه المكتبة صنفا جديدا من كتب العلم، ثم تساءل متعبا متحيرا: ترى لأي شيء خلقت مواهبه على وجه التحقيق ..؟ لا شك أنه لم يعرف نفسه بعد. ولو عرف نفسه لحفظ وقتا - أحق به أن يحفظ - من الضياع هدرا بغير ثمرة، فما حقيقة ميوله؟! لقد انتهى من القانون والعلم ولكن ليس القانون والعلم بكل شيء، هنالك ما يضارعهما جلالا وجمالا فما سر ولعه بشوقي والمنفلوطي؟ ما طربه للبيان الساحر؟ ألا يجوز أن يكون استعداده الحق للأدب؟ وأجمل به من فن لا يستوجب التمرس به شهادة ولا دراسة مدرسية، فما عليه إلا أن يقرأ كما قرأ شوقي وحافظ ومطران من قبل. وما عتم أن استقبلت مكتبته ضيوفا جددا من أزاهر الشعر والنثر أكب عليها بشغف وحماس بلغ حد الغضب، ووقع في رحلاته على قول ابن خلدون: «سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي: كتاب الكامل للمبرد، وأدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها.» فتنهد ارتياحا كأنما وقع على كنز واقتنى الأركان الأربعة، وقرأها جميعا بما طبع عليه من حماس وسرعة، فلما أن فرغ منها تساءل مسرورا: «هل صرت الآن أديبا؟» وأمسك بالقلم وصدقت عزيمته على أن يكتب، وكتب موضوعا سماه: «على شاطئ النيل» أفرغ فيه فنه وإلهامه، وأرسله بالبريد إلى إحدى المجلات، ومضى يتخيل ما عسى أن يستقبله به القراء من الإكبار والإعجاب، وكيف أنه قد يكون أول درجات الشهرة والمجد، وحسبه هذا فما يطمع في أجر غير المجد الأدبي، وظهرت المجلة وفتش عن مقاله فما وجد له أثرا، ففتر حماسه وتعثرت أمانيه في الخجل، ولكنه لم ييأس فناجى نفسه يستنظرها أسبوعا آخر، ومضت أسابيع دون أن تتاح للمقال فرصة الظهور، لقد قرأ أركان الأدب الأربعة التي يعد ما سواها تبعا لها وفروعا منها، فهو أديب بحكم ابن خلدون، وما أدراك ما ابن خلدون! فكيف لم ينشر مقاله! هل أهمل القوم نشره لأن كاتبه غير معروف؟ أو لأنه لم يستشفع إليهم بشفيع؟ أو تراهم عجزوا عن فهمه؟! وفكر في أن يذهب إلى المجلة بنفسه ليقف على حقيقة الأمر، ولكنه لم يستطع لأن خجله كان يقف له بالمرصاد دائما، ثم تناسى آثار الصدمة الأولى وكتب مقالا ثانيا عن العدالة، فلم يكن حظه أحسن من الأول، فكتب ثالثا عن «جناية الفقر على النبوغ» فلم يكن خيرا من سابقيه. وتوثب للكتابة بعناد وإصرار من ناط بها أمله الأخير فحطمت محاولاته جميعا على صخرة الإهمال الباردة، وأعاد كتابة أكثرها وأرسلها إلى مجلات مختلفة، فلم يجد بينها من ترحم أمله المعذب، وتنقذه من هاوية القنوط، وكان آخر مقال كتبه عن «تفاهة الأدب» فضاع كما ضاع إخوته، وانكسر عن محاولاته محطم النفس مطعون الفؤاد، لقد تآمر عليه سوء الحظ - عدوه القديم - وخبث طوايا النفوس ولؤم الطباع، فلم يساوره شك في قيمة مقالاته الأدبية، بل ظنها خيرا مما بدأ به المنفلوطي نفسه وما يتيه به كثير من المعاصرين، ولكنه سوء النية وفساد الطوية! .. وتبددت الأحلام جميعا، ألا ما أضيق العيش وما أظلمه! ورمى بالقلم، وتضاعف ما به من حقد وتمرد وألم، ويئس أخيرا من المجد والسلطان، وامتلأت نفسه سخطا وغضبا على الدنيا والناس، والعظمة والعظماء خاصة! وما العظمة؟ .. أو ما العظمة كما تعرفها مصر؟ .. أجاب على ذلك بكلمة واحدة: «الظروف المواتية»، بل قال عن سعد نفسه على حبه: «لقد مهد له صهره سبل النجاح، ولولا صهره ما كان سعدا الذي نعرفه.» وكان يردد كثيرا: «إن الوظائف الكبرى في مصر وراثية.» أو يقول: «إذا أردت التفوق في مجتمعنا فعليك بالقحة والكذب والرياء، ولا تنس نصيبك من الغباء والجهل.» أو يقول ساخرا: «ما هؤلاء الأدباء الذين يمثلون الصحف والمجلات؟ أمن الأدب الحق أن تستعين على البروز فيه بالسياسة والحزبية؟ وهل يعجز عن بلوغ ما بلغوا من مجد كاذب إلا كريم؟» أو يقول محتدا غاضبا: «والله لو أردت أن أكون عظيما في مصر ما عجزت .. ولكن قاتل الله الكرامة!» وحرق الغضب نفسه حتى تركها شعلة من لهب غير مقدس وحطاما من رماد، ولكن الحياة لا تحتمل الغضب في كل حين، فما من معدى عن سويعات راحة وإن تكن راحة القنوط، فكان يستريح إلى اليأس كلما لج به الغضب أو الحقد. وفي تلك السويعات كان يقول لنفسه: ألا ما جدوى العناد في هذه الدنيا؟ .. إذا كنا نموت كالسوائم وننتن فلماذا نفكر كالملائكة؟ هبني ملأت الدنيا مؤلفات ومخترعات فهل تحترمني ديدان القبر أو تلتهمني كما التهمت جثتي ريا وسكينة؟ .. الدنيا أكاذيب وأباطيل وما المجد إلا رأس الأكاذيب والأباطيل، وسلم نفسه إلى عزلة عقلية وقلبية مريرة، يئس من الحياة فهرب منها، ولكنه خال وهو يدبر عنها يائسا عاجزا، أنه يزهد فيها متعاليا متكبرا، ولذلك لم يهجر عادة القراءة، لأن الكتب تهيئ للإنسان الحياة التي يهواها، فتعالى بحياة الكتب على حياة الدنيا، وظفر منها ببلسم لآلام كبريائه، واستعار ما بها من قوة، فخالها قوة ذاتية، وكأن أفكارها أفكاره وسيطرتها سيطرته وخلودها خلوده، وقد عدل - بعد إخفاقه المتواصل - عن القراءة المنظمة المحددة الهدف، واندفع يقرأ ما تقع عليه يداه، وعني عناية خاصة بالكتب الصفراء لأنها في نظره عسيرة وعزيزة المنال، وانكب على القراءة بسرعة وشراهة وأعصاب متوترة فلم يتمتع بقراءة مجدية ولا نافعة، وأصابه سوء هضم عقلي، فكان يعرف أشياء وأشياء، ولكنه لم يتقن شيئا أبدا، ولم يتعود عقله التفكير مطلقا ولكن كانت الكتب تفكر له وتتأمل بدلا منه، ولم يكن يعنيه التفكير ولا التأمل وإنما كان همه الحقيقي أن يحدث الغد بما قرأ بالأمس، وأن يحاضر الزملاء من الموظفين والصحاب - بلهجة الفيلسوف المعلم - فيما وعته الذاكرة وحفظته، ولذلك سماه موظفو المحفوظات بالأشغال «الفيلسوف» فسر بالتسمية وإن كان ما بها من التوقير يعادل ما بها من التحقير، ولم يكن للفيلسوف رأي يثبت عليه لأنه كان يقرأ ولا يفكر، وعسى أن ينسى اليوم ما قال بالأمس القريب، وعسى أن يقول غدا ما يناقض قوليه جميعا، وهو سباق إلى أي رأي ما دام فيه رضاء لكبريائه وغروره وولعه بالظهور، فلهج بالمعارضة واللجاج، فإذا قال محدثه يمين قال شمال، وإن قال أبيض قال أسود، ثم يندفع في النقاش بعنف واحتداد وضيق صدر حتى ليوشك أن يأخذ بتلابيب مناظره! وليس يعني هذا حتما أنه غبي، والحقيقة أنه كان عادي الذكاء.
Halaman tidak diketahui