قال له حندس: انتظر حتى لا تضل الطريق في الظلام.
فقال وهو يهم بالذهاب: الأعمى لا يضل طريقه في الظلام.
مضوا في الطريق متمهلين حذرين؛ لوعورته ولكثرة ما يعترضه من أحجار ونفايات، وأحدقت بهم خرائب تفوح منها روائح عطنة، وأحيانا نتنة كريهة، كأنما تصدر عن جثث في جوف الليل، وغلظت الظلمة حين بلغوا ممرا مسقوفا بغطاء لم يتبينوه، تقوم على جانبيه المتقاربين جدران مبان غير مرئية، فكأنما فقدوا الأبصار. مات كل شيء في ظلمة الممر حتى أشباحهم، وند عن أقدامهم ارتطامات كخشخشة زواحف، وعن أفواههم زفرات كالفحيح، وعلى بعد سحيق تراءى نور خافت، فقال عنارة: سنطرق الباب ثم نندفع كالمصيبة، ولا من سمع، ولا من رأى.
فرددت أصوات بهيمية: ولا من سمع ولا رأى.
ثم ارتفع صوت حندس قائلا بوحشية: وينتهي الحلم!
وإذا بصرخة تنطلق من حلقه كالعواء، وإذا بجسمه الضخم يتهاوى على الأرض. صرخوا في صوت واحد «معلم حندس»، وتطايرت زعقات الغضب والويل، وحملقوا في الظلمة المستحيلة، ولكنهم لم يروا إلا العمى، ونادى سمكة بأعلى صوته السائق أن يحمل إليهم فانوس العربة، وتأوه حندس فساد الصمت، ثم قال بصوت متقطع محشرج: عنارة، قتلت .. بينكم.
وعلى ضوء الفانوس تبدى المعلم حندس منكفئا على وجهه، عاري الرأس، مكشوف الساقين، ودمه ينساب بطيئا بين الحصى. قتلهم الغيظ وأذلهم الحنق. لم يشعروا من قبل بعجز مهين كهذا العجز، فهم لم يرفعوا نبوتا ولا سلوا خنجرا ولا قذفوا طوبة، وخطف الرجل وهم يبادلونه الحديث. وأين القاتل، بل أين منزله؟ وجدوا مكان المنزل ضريح ولي في خلاء تشتعل في كوة بجداره شمعتان، ولم يشعر أحد منهم بالقاتل عند تسلله، ولا عند انفلاته، لم يسمع له حس، ولا عثر له على أثر.
الصدى
اعتمد على عصاه وانتظر، تلاشى رنين الجرس، ولا صوت يجيء من وراء الباب؛ كأن الشقة خالية، بعد لحظة سينفتح الباب عن الوجه القديم، الوجه الذي لم تره منذ عشرين سنة، والزمن لم يطمس صورته القديمة الباكية المتصبرة المتأففة. وهي وإن تكن اليوم في الثمانين، فما أكثر المعمرات في أسرتنا، أما الرجال ...؟! الرصاص والمآسي والأعين التي لا تذرف الدمع.
وسمع صوت شبشب يزحف فوق البلاط، فتهيأ للمفاجأة وعواقبها، ولكن الشراعة فتحت عن وجه ذابل عليل ، أم محمد الخادمة، ارتاح لذلك ونظر إليها من عل وهي تتطلع إليه بحذر ونظر كليل: من؟ - افتحي يا أم محمد. - من حضرتك؟
Halaman tidak diketahui