لماذا جاء؟ لقد مات كل شيء أو أصبح في حكم الميت، وبعدت الذكريات لدرجة لم يعد يخفق القلب لها إلا قليلا، ومن الخير له ألا يخفق فوق ما يحتمل. أما ذلك الغلام الذي مات في صباه، فلأمر ما لم يمحه النسيان، حتى اسمه - رفاعة - لم ينعدم. كان يقيم في البيت الآيل للسقوط، ينتعل التراب توفيرا لصندله، وينظر إليك بعينين واسعتين ناعمتين لا أثر فيهما للعنف أو الشقاوة، ويلعب الحجلة في ذاك المكان تحت النافذة؛ نافذة زينب. لتهنأ الذاكرة بما حفظت من أسماء قليلة نادرة، ولكن مفعمة بحيوية خارقة تتحدى الزمن. لا يذكر من زينب إلا اسمها، ولا يذكر من جمالها إلا سحره الباقي كعبير مستحيل الوصف، وأنها كانت «كبيرة» بالقياس إلى أعمارهم وقتذاك، وكانت تطل من فرجة في شيش الشباك وهم يلعبون تحتها، وأحيانا تناديه بنبرة دسمة مؤثرة، قد تغير مع الزمن حتى جهاز السمع الذي كان يطرب لها، عشقها في العاشرة كما يعشق ابن العاشرة، عندما يرفع عينيه ليرى وجهها! أجل عندما يرى وجهها. وقالت له ذات يوم: «يا ولد، إنك تثير الغبار، فاحتشم.» يا له من يوم ذلك اليوم! ولعلها اليوم في الثمانين من العمر، إن تكن معدودة من الأحياء، أو لعل النباتات والهواء امتصت مخلفاتها من النيتروجين وثاني أكسيد الكربون والماء وبرادة الحديد والنحاس والكالسيوم. أجل، لا يبعد أن يكون - هو - قد استنشق بعضها، أو أكل البعض الآخر وهو لا يدري. كان يغسل وجهه ويمشط شعره ويتأنق في جلبابه وينتعل حذاءه المطاطي، ويبدي أقصى ما عنده من مهارة في اللعب والقفز والشقلبة تحت عينيها؛ ليسرها ويحظى بإعجابها، ويتيه زهوا إذا سمع همسها الضاحك: «أنت بهلوان يا ولد!» فيضاعف من الشطارة والعفرتة. وقد لازمته تلك العادة في أطوار متأخرة من حياته، وهو يعرض ألاعيبه في ركاب الوزراء والحفلات العامة؛ ليستجلب التصفيق الحاد من الجنسين. حدث ذلك تحت النافذة التي لم يعد يطل منها أحد، والتي تنتظر بين حين وآخر من يقتلعها ويرمي بها فوق ركام من الأخشاب والحجارة والتراب. ولم تكن هذه القهوة قائمة، ولم يكن أحد يحلم بها، وهي الآن خلية للشبان الذين لا يرحمون عجوزا من زعقاتهم وضحكاتهم، وضرب الموائد الخشبية بقبضاتهم.
وذات صباح، فتح عينيه فرأى جدته تنظر إليه باستغراب، وتسأله: من هي زينب؟
فدعك عينيه ولم يجب، أو بالأحرى لم يفهم، فقالت: تنادي زينب وأنت نائم، فمن هي زينب؟
ولما لم يجب، حركت يدها برثاء: تسقط في الحساب والديانة وتحلم بزينب! .. يا خيبتك القوية!
ولما قرأ
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه
في وصف القيامة، أرعبته الصورة، وبخاصة ما يتعلق بإمكان الفرار من زينب وتركها لشأنها، واستقرت الصورة في قلبه طويلا كمأساة لا شفاء منها. ومن عجب أنه جاء الحارة وهو لا يذكر زينب البتة، حتى رأى النافذة! أما رفاعة فكان يلعب تحت النافذة، وكان نحيلا لدرجة تستثير الضحك، فكان يبتسم لضحكاتنا ولا يحنق أو يغضب. لا يذكره حانقا أو غاضبا قط، ولكنه كان يذعر إذا تحرش به الشربيني. ولم يكن الشربيني يتحرش به لسبب محدد، ولكن لأنه كان من طبعه أن يتحرش بالجميع، وبخاصة الضعفاء منهم، كان باختصار فتوة العصابة. وقلت له مرة: «حرام عليك .. يجب أن تخاف ربنا.» فأعاد كلماتي بصوت كالنهيق، وكان ذا قدرة غريبة على الاستهزاء بكافة القيم، رغم أنه لم يجاوز العاشرة، ولم يكن التحدي ليجدي معه ولو اجتمعنا عليه كلنا؛ فقوته وجرأته كانتا كالإعصار الذي يطيح بأي شيء يعترض سبيله. كان رئيسنا بالانتخاب الطبيعي ، ولكن بلا خلق ولا مبادئ ولا يهاب أبا ولا أما، ولا أذكره إلا ضاحكا أو غاضبا، أما العواطف الرقيقة فلم تعرف مكانا في قسمات وجهه، ولكنه كان رجلنا عند الشدائد، عند أي اقتحام لحارتنا، أو اعتداء على أحد منا، وكان أيضا كريما لا يستأثر بمليم وحده، وكان أمامنا في التجارب الجديدة، يشدنا إليها واحدة بعد أخرى، والآخرون يلهثون وراءه مشدوهين. - هل سمعتم عن السيرك؟ - وما السيرك يا شربيني؟
فيمضي بنا إليه، ونكتشف بفضله دنياه الساحرة، أو يقول باستعلاء: طبعا أنتم لا تعرفون الجبل!
ويقودنا إلى المقطم، فنرقى في معارجه فوق العالم كله، حتى يئن رفاعة متشكيا: كفاية .. تعبت.
فيقول له بازدراء: تقدم يا بنت!
Halaman tidak diketahui