وقال الكهل بصوت مسموع بعض الشيء: تذكروا أننا ما زلنا بعيدين عن ميعاد انصرافنا المعتاد. - ولكن لم تعد هناك سهرة! - لأننا أوقفناها بلا سبب. - بلا سبب؟! - أعني بلا سبب يمنع من مواصلتها «الآن». - وبأي روح نواصلها بعد ما كان؟ - لننس إلى حين الباب، ولنر ما يكون.
لم يرحب بالاقتراح أحد ولم يرفضه أحد، وجاءت الأكواب الجهنمية على مرأى من الرجل الغريب، ولكنه لم يعبأ بهم. وأفرطوا في الشراب، دارت الرءوس، استخفتهم النشوة، انزاحت الهموم بسحر ساحر. أخذ الضحك يتعالى، رقصوا فوق مقاعدهم، تبادلوا القافية، وغنوا معا:
عيد الأنس هلت بشايره.
وطيلة الوقت تجاهلوا الباب، نسوا وجوده نسيانا تاما. استيقظ القط الأسود وراح يتنقل من مائدة إلى مائدة، ومن ساق إلى ساق، شربوا بنهم، طربوا بنهم، عربدوا بنهم، كأنما يستمتعون بآخر لياليهم في الخمارة.
وحدثت معجزة؛ إذ تقهقر الحاضر حتى ذاب في مد النسيان، وتحللت الذاكرة فنفضت من خلاياها كل مكنوزها. لم يكن الواحد يعرف صاحبه، إنه لنبيذ جهنمي حقا، ولكن، أجل ولكن ... - ولكن أين نحن؟ - خبرني من نكون، أخبرك أين نحن؟ - كان ثمة غناء؟ - أو كان بكاء على ما أذكر. - وكان ثمة حكاية .. ترى أي حكاية؟ - وهذا القط الأسود، هو شيء محسوس لا شك فيه. - أجل، إنه الخيط الذي سيوصلنا إلى الحقيقة. - ها نحن نقترب من الحقيقة. - كان هذا القط إلها على عهد أجدادنا. - وذات يوم جلس على باب زنزانة، ثم أذاع سر الحكاية. - وهدد بالويل. - ولكن ما الحكاية؟ - كان في الأصل إلها ثم انسخط قطا. - ولكن ما الحكاية؟ - كيف لقط أن يتكلم؟ - ألم يفض إلينا بالحكاية؟ - بلى، ولكنا ضيعنا الوقت في البكاء والغناء. - ها قد اكتملت الخيوط، وتمهد الطريق لاقتناص الحقيقة.
وارتفع صوت الجرسون العجوز وهو ينهر شخصا ما مهددا ومتوعدا، ويصيح به: اصح يا كسلان وإلا هشمت رأسك.
وأقبل رجل ضخم محني الهامة من الانكسار، راح يرفع الأقداح والصحاف، وينظف الموائد، ويجمع النفايات من فوق الأرض. كان يعمل دون أن ينبس بكلمة أو ينظر إلى أحد، وقد غشيه حزن عميق واغرورقت عيناه بالدموع.
تابعوه برثاء وإشفاق، وسأله أحدهم: ما الحكاية؟
ولكنه لم يلتفت إليه، وتابع عمله صامتا حزينا مغرورق العينين.
وتساءل الكهل: متى وأين رأيت هذا الرجل؟!
Halaman tidak diketahui