وضرب أرض الحجرة بعصاه مرتين حتى طقطق زجاج النافذة، وإذا بأم محمد تنقر على الباب المغلق مستطلعة مستأذنة، فصاح بها غاضبا «اذهبي»، ثم التفت إلى المرأة التي واظبت على التسبيح في هدوء، وقال: كفى، كفي عن التسبيح، نحن لا نعرف الله، ولا نذكره إلا عند شراء النقل أو صنع الكعك، الحق أننا لا نعرف الله ولا نريد أن نعرفه، والحلم الذي رأيت كان حلما كاذبا، وما كان ينبغي أن أحلم، أو أن أكترث للحلم إذا حلمت، وما كان ينبغي أن أمرض، على الذين يعيشون للرصاص والدم ألا يمرضوا أو يحلموا، وعليهم ألا يبحثوا عن راحة إلا في الموت، عليهم أن ينتحروا قبل أن يقتلوا، فأي شيطان دفعني إلى زيارتك يا امرأة؟
ولما لم تخرج عن تجاهلها الرهيب، قطب في عزم، وتقدم منها خطوتين، ثم مد يده فأمسك بيدها، ارتفع رأسها متراجعا في دهشة، تركت المسبحة في حجرها وأراحت يدها الأخرى على يده، تحسست ظهرها الجاف المعروق ومنابت الشعر الأبيض عند أصول الأصابع، ارتسم الفزع في وجهها، ثم ندت عنها صرخة وصاحت: من؟ .. من؟ .. أم محمد!
وسرعان ما ألمت بها نوبة سعال، ثم عادت تصيح بصوت مخنوق شرق: أم محمد .. أم .. محمد.
انفتح الباب في دفعة متمردة، وهرولت المرأة إليها في اللحظة التي أخذ هو فيها يتراجع في وجوم شديد. احتوت الخادم يد سيدتها المرتعشة بين راحتيها في حنو، ثم راحت تربت ظهرها النحيل في إشفاق، قال الرجل كالمعتذر: لا أدري ماذا أفزعها!
فقالت الخادم بصوت خائف: أردت أن أقول لك، فلم تسمع لي يا سيدي، ثم منعتني من الدخول!
لبس طربوشه وتناول عصاه، وهو يقول: ماذا أفزعها؟ .. كنت طوال الوقت أتودد إليها، وكان أملي كبيرا في أن تلين إذا رأتني بين يديها.
أرخت الخادم جفونها، وهي تقول بحسرة: يا سيدي، إنها لا ترى!
اتسعت عيناه الغامضتان في ذهول، وراح يتفحص أمه، وهو يقول: تعنين ...؟ - نعم يا سيدي، إنها لا ترى.
وحل بالحجرة خرس مقدار دقيقتين، ثم تمتم: لم أتصور ذلك، النور خافت كما ترين.
ثم بنبرة مرة، وكأنه يحادث نفسه: ولكني حدثتها طويلا فتجاهلتني على نحو أليم!
Halaman tidak diketahui