Bagaimana Kita Mendidik Diri Kita Sendiri
كيف نربي أنفسنا
Genre-genre
المدرسة والجامعة
المجتمع يربينا
لماذا نثقف أنفسنا
زيادة الفراغ وزيادة المسئولية
كيف نربي أنفسنا
عادات تعوق الثقافة
البيئة العائلية والثقافة
الرجعية المعارضة للثقافة
تحصيل العيش والثقافة
ماهية الثقافة
Halaman tidak diketahui
قيمة الثقافة وغايتها
من هو الرجل المثقف
ثقافة بشرية
لا نقرأ بل ندرس
تخريج الرجل العربي العصري
الكتب التي غيرت الأفكار والمجتمعات
ينقصنا 10 كتب
المعاجم العربية
الثقافة الصبيانية
لنكن موسوعيين
Halaman tidak diketahui
الهواية في الثقافة
الجريدة والمجلة
التربية للحياة
سيكلوجية الدرس
كيف نقرأ الكتاب
دراسة اللغة العربية
الأدب العربي القديم
الكتب العربية القديمة
مصر والأدب العربي القديم
الثقافة العربية الحديثة
Halaman tidak diketahui
مشكلة الثقافة في مصر
الحضارة المصرية القديمة
اللغة الأجنبية
الآداب العالمية
دراسة العلوم
دراسة السياسة
دراسة التاريخ
دراسة الاقتصاديات
دراسة الفلسفة
دراسة الدين
Halaman tidak diketahui
دراسة الفنون
ليكن لنا كفاح ثقافي
كتب رمزية وكتب بذرية
بذور ثقافتي
التعمق للدراسة
مئة كتاب
البرنامج للتثقيف الذاتي
المدرسة والجامعة
المجتمع يربينا
لماذا نثقف أنفسنا
Halaman tidak diketahui
زيادة الفراغ وزيادة المسئولية
كيف نربي أنفسنا
عادات تعوق الثقافة
البيئة العائلية والثقافة
الرجعية المعارضة للثقافة
تحصيل العيش والثقافة
ماهية الثقافة
قيمة الثقافة وغايتها
من هو الرجل المثقف
ثقافة بشرية
Halaman tidak diketahui
لا نقرأ بل ندرس
تخريج الرجل العربي العصري
الكتب التي غيرت الأفكار والمجتمعات
ينقصنا 10 كتب
المعاجم العربية
الثقافة الصبيانية
لنكن موسوعيين
الهواية في الثقافة
الجريدة والمجلة
التربية للحياة
Halaman tidak diketahui
سيكلوجية الدرس
كيف نقرأ الكتاب
دراسة اللغة العربية
الأدب العربي القديم
الكتب العربية القديمة
مصر والأدب العربي القديم
الثقافة العربية الحديثة
مشكلة الثقافة في مصر
الحضارة المصرية القديمة
اللغة الأجنبية
Halaman tidak diketahui
الآداب العالمية
دراسة العلوم
دراسة السياسة
دراسة التاريخ
دراسة الاقتصاديات
دراسة الفلسفة
دراسة الدين
دراسة الفنون
ليكن لنا كفاح ثقافي
كتب رمزية وكتب بذرية
Halaman tidak diketahui
بذور ثقافتي
التعمق للدراسة
مئة كتاب
البرنامج للتثقيف الذاتي
كيف نربي أنفسنا
كيف نربي أنفسنا
تأليف
سلامة موسى
المقدمة
بقلم سلامة موسى
Halaman tidak diketahui
القاهرة في مايو 1958
موضوع هذا الكتاب هو تخريج الرجل المثقف؛ فهو يبحث الثقافة ماهية وغاية وقيمة، كما يبحث الوسائل لتحقيقها، وقد كان من حظي أن أكسب كلمة الثقافة معناها العصري، كما أني صرفت شطرا كبيرا من حياتي الوجدانية في التوجيه الثقافي لشبابنا بمؤلفات مختلفة قامت فيها المبادئ العصرية مقام المبادئ التقليدية، وكانت مشكلات الثقافة عندي بمثابة المشكلات السياسية أو الدينية عند غيري، بل كثيرا ما كانت هذه المشكلات شخصية، أواجه فيها تربيتي الخاصة ونموي الذهني.
ونحن في مصر نعيش في بؤس ثقافي أو فاقة فكرية تقارب العدم، وليس فينا من يجهل الأسباب، بل السبب الوحيد في ذلك؛ إذ قد حال الاستعمار بيننا وبين التعليم العصري حتى إنه لم تؤسس وزارة المعارف مدرسة ثانوية للبنات إلا في سنة 1925، وحتى إن جامعة القاهرة بقيت طريدة لا تعترف بها الحكومة أكثر من عشرين سنة، بل حسب القارئ أن يذكر القيود التي كانت تفرض على الراغبين في إصدار المجلات، وهناك قيود أخرى عديدة لا يمكن أن تفسر إلا بأنه كانت هناك رغبة مثابرة في إنكار حقنا في التطور الثقافي.
ولكن شهوة الرقي التي تنبض في نفس الشباب، استطاعت على الرغم من كل هذه العوائق أن تستحدث جوا ذهنيا تيسر فيه التأليف إلى درجة ما، فكثرت بعض المؤلفات، وتكونت لها سوق صغيرة، وصار في مستطاع الشباب الذي يجهل اللغات الأوروبية أن يجد فيها تنبيها وفائدة، ومع أننا ما زلنا بعيدين عن الوقت الذي نستطيع فيه أن نقول إن الشاب المصري يمكنه أن يجد الثقافة السامية الوافية في المؤلفات العربية؛ فإننا على الأقل نستطيع أن نقول إنه سيجد فيها ما ينبهه ويرقيه منها، ولن يكون الزمن بعيدا حين تزكو المؤلفات وتتفاعل مع مجتمعنا المتغير، فيكون التطور الذهني الذي ننشد، وعندئذ نستطيع أن نهتدي بثقافة حية في هذه البلبلة العصرية التي تتصارع فيها الفكريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولا يخلو شاب من نزعة ارتقائية تبعث فيه الرغبة والنشاط كي يعلو على نفسه، ويسمو إلى مستويات أرفع من المستوى الذي يعيش فيه، وهذه النزعة إلى الارتقاء، أو كما يسميها «برناردو شو» شهوة التطور، تتخذ أشكالا مختلفة تتأثر بالبيئة الاجتماعية والمثليات المنشودة، فقد يطمح الشاب إلى الثراء أو الوجاهة أو الرياضة أو الدراسة، وقد يكون اختياره لواحد من هذه الأهداف أو لغيرها طفليا، متأثرا بسلوكه أيام الطفولة، كأنه رواسب السنين الأولى من العمر، وقد يكون ناضجا، قد نشأ عن وجدان (أي وعي) أو بشيء على الأقل من الوجدان.
وهذا الكتاب هو محاولة لإرشاد الشباب نحو الارتقاء الثقافي في حدود البيئة الاجتماعية المصرية أو العربية على وجه عام، أو هو توجيه لشهوة التطور، وإيضاح للصحيح والزائف من النشاط الدراسي، فنحن نعيش في عصر انفجاري مملوء بالأحداث والثورات والحروب والانقلابات، ولم يحدث قط أن عاش البشر في مثل عصرنا؛ ففي أقل من خمسين سنة، أي من 1916 إلى 1956، شبت حربان عالميتان، وعم النظام الاشتراكي 1000 مليون إنسان، وظهرت القنبلة الذرية، ثم القنبلة الهيدروجينية، واتصلنا بالقمر عن طريق الرادار، وليس بعيدا أن نصل إليه محمولين على الصواريخ، وأصبحت مواخر الجو تزاحم مواخر المحيط، وتوشك المكالمة الراديوئية أن تأخذ مكان المكالمة التليفونية ... و ... و ...
وكل هذا يدل على أن وطأة العلم على المجتمع قد اشتدت، وأن الثقافة قد أصبحت ضرورة محترمة على كل إنسان، وأننا يجب أن نتغير ونتكيف ونتطور؛ لأن الركود في مثل هذه الظروف جريمة، والتغير الذهني بالارتقاء الثقافي هو بعض هذا التطور، أو هو أهمه.
والتغير الآلي في المخترعات يحدث حتما تغيرا في الإنتاج والمواصلات، ثم تتغير السياسة والاقتصاد والمجتمع نتيجة لذلك، ومعنى هذا كله أن الثقافة دائمة التغير، وأننا إذا ركدنا، أو تحجرنا، فإننا لا نرفض العيش وفق الاتجاهات الجديدة فقط، بل نرفض الفهم والمعرفة، وننساق في المجتمع كأننا حطامة يحملها التيار بلا وجدان أو دراية بموقفنا.
فنحن، سواء أشئنا أم لم نشأ، نعيش في مجتمع متطور، ونحتاج إلى الدراسة الدائمة كي نقف على الاتجاهات والغايات التي ننساق بها وإليها فيه، فيجب لهذا السبب أن يكون لكل منا برنامج ثقافي هو برنامج الحياة، بحيث نعيش لنقرأ ونقرأ لنعيش، وهذا البرنامج يقبل بالطبع التنقيح والتغيير، ولكن يجب ألا يخلو إنسان منا من برنامج ينتظم به ارتقاؤه الذهني.
وفي الفصول القصيرة التالية إرشادات، هي لإيجازها تكاد تكون إيماءات للقارئ، فإني توقيت التفصيل اعتمادا على أن القارئ يستطيع بذكائه أن يتمم ما نقص، ولكني أسهبت في الشرح حين كنت أصطدم بصعوبة سيكلوجية تعوق الدراسة؛ لأن القارئ ربما يعجز عن تخطيها.
Halaman tidak diketahui
وقد كانت الغاية الأولى إرشاد أولئك الذين لم تتح لهم ظروفهم الحصول على تعليم عال، ولكني رأيت بعد التفكير أن المتعلمين يحتاجون أيضا إلى الإرشاد الثقافي، وظني أن القارئ العادي لن يجد صعوبة في فهم الفصول التالية والعمل بها والانتفاع منها، وخاصة إذا قرأ الكتاب بترتيبه القائم.
والكتاب - كما يرى القارئ من تأمل الفهرست - جزءان، فإن فصول الجزء الأول الأول تعالج الخطة العامة للدراسة، وتبحث الأساليب والقيم والظروف، أما فصول الجزء الثاني فتعالج التفاصيل في دراسة المواد المختلفة، ولهذا الترتيب قيمته إذا راعاه القارئ.
ورجائي أن ينتفع الشباب بهذا الكتاب، وأن أجد النقد الذي ينبهني عن الخطأ أو التقصير حتى أتلافاه في طبعة أخرى.
المدرسة والجامعة
في مجتمعنا الحاضر المدرسة ضرورة لكل فرد من الجنسين، وفي مجتمع راق ننتظره ونحلم به، سوف تعد الجامعة ضرورة أيضا لكل فرد من الجنسين، ولكن المدارس على ضرورتها ليست عامة في مصر، أما الجامعة فمقصورة على نحو خمسين ألفا من أبناء الأثرياء والمتيسرين.
وكلنا نعرف أن ما نحصل عليه في المدارس من المعارف مقدار صغير، إزاء الحاجات التي تطلبنا بها الحياة؛ ولذلك فإننا نحس الجهل في مواجهة الصعاب، كما نحس الحاجة إلى الدراسة، والتعليم المدرسي يتناول طائفة من المعارف تعد أساسية في التثقيف، ولكن المدرسة مع ذلك تعامل جميع التلاميذ كما لو كانوا على قامات متساوية، يحتاجون إلى قطع لا تختلف من القماش، كي تصنع لكل منهم بذلة خاصة له، ولما كان كل إنسان فذا في هذه الدنيا، فهو محتاج إلى معارف تتفق وكفاياته وحاجاته الخاصة، فالبرنامج التعليمي الذي يوضع لمليون صبي أو شاب لا يمكن أن يؤدي حاجات كل صبي وكل شاب إلا على وجه عام نتجاهل فيه الخصائص والميزات التي لكل فرد.
ثم هذه المعارف التي نحصل عليها في المدارس، حتى مع الدقة في اختيارها، إنما تعد أساسا نبني عليه حين نخرج من المدرسة، فإذا ركدنا فإن هذا الأساس لن يغني؛ فنحن في حاجة - عقب المدرسة، بل عقب الجامعة - إلى أن نوالي الدراسة، والمعلم الممتاز هو ذلك الذي لا يقتصر على إيصال المعارف إلى أذهان تلاميذه، بل يضع لهم الخطط للدراسة بحيث يمكنهم أن يستغنوا عنه وأن يعلموا أنفسهم مستقلين مدى حياتهم، وقل أن نجد مثل هذا المعلم، ومجتمعنا في تطوره السريع في حاجة إلى جمهور مثقف، في نشاط ذهني مستمر؛ كي يستطيع حل المشكلات الطارئة، وكي يحول دون وثوب الطغاة من المستعمرين الأجانب ومن المستبدين المصريين، يزعمون القدرة على ترقية الأمة بإنكار حقوقها. والجمهور الجاهل هو أعظم الوسائل لتجرئة الوصوليين والمستبدين على الطغيان؛ لأنه سريع الانقياد، ينخدع بالألفاظ البراقة والادعاءات الرنانة وبهلوانية المنابر.
ومن هنا قيمة الكتاب والجريدة والمجلة؛ فإننا نعيش - بعد المدرسة والجامعة - نحو خمسين سنة وهي غذاؤنا الذهني ووسيلة رقينا الثقافي، فلن نبلغ النضج ما لم تكن القراءة - لا بل الدراسة - عادتنا، وما لم ننفق على تثقيف أذهاننا بمثل السخاء الذي ننفق به على شراء حاجاتنا المادية.
والمجتمع الراقي يؤمن بحرية الثقافة، وهو يسن من القوانين ويضع من الأنظمة ما يساعد على رواج الكتب والمجلات، بل الجرائد أيضا. وفي الأمم الديمقراطية الأوروبية نجد آلاف المكتبات التي تشتري الكتب، وتشترك في المجلات والجرائد السيارة، زيادة على ما يشتريه الأفراد؛ فالنشاط الذهني يجد السوق الرائجة في تلك الأمم لمنتجاته، وإذا دخل أحدنا بيتا أوروبيا وجد الكتب تزين كل غرفة فيه تقريبا، بل لقد رأيت في لندن حتى الممر الضيق إلى المطبخ يحمل رفا من الكتب لا يقل ما فيه عن مئتي مجلد، وهذا إلى التباهي باقتناء الكتب الجديدة ووضعها على الموائد في الصالونات، كأنها من الأثاث الفاخر.
ولهذا السبب كثيرا ما نجد فيلسوفا عظيما في أوروبا لم يتعلم قط في جامعة، بل إن تعليمه في المدرسة كان ناقصا، فهذا مثلا هربرت سبنسر فيلسوف الإنجليز لم يحصل على تعليم ابتدائي كامل، بل لقد عاش نحو ثمانين سنة وهو يفخر بأنه لم يتعلم «الأجرومية»، وكذلك برناردشو أيضا، بل يمكن أن نذكر عشرات الزعماء من الساسة والأدباء ممن لم يتعلموا في مدرسة أو جامعة، ولكن المجتمع الراقي الذي عاشوا فيه هيأ لهم جامعة كبري من الكتب والمجلات التي درسوها، فنمت أذهانهم، وحصلوا منها على النضج الثقافي الذي ربما لم يبلغه خريجو الجامعات.
Halaman tidak diketahui
فإذا كان قارئ هذا الكتاب لم يحصل على تعليم مدرسي أو جامعي واف، فإنه سيجد هنا برنامجا وافيا لدراسة ذاتية يستطيع بها أن يرقي شخصيته وينمي ذهنه بحيث لن يأسف على ما فاته، وإذا كان القارئ من السعداء الذين حصلوا على تعليم جامعي، فإنه سيجد هنا أيضا ما يحثه على أن يكون طالبا مدى عمره، بل يجب على خريج الجامعة أن يذكر أن سرعة النمو في المعارف تجعل حتما عليه أن يتجدد بالدراسة الدائمة؛ فإن الطبيب الذي تخرج مثلا حوالي 1908 أو 1918، وبقي يمارس الطب إلى الآن، لا يكاد يجد دواء يوصف لمريض في الوقت الحاضر مما كان يعرف قبل 1918؛ لأن جميع الأدوية تقريبا جديدة، وحسبنا أن نذكر منها الفيتامينات، والهورمونات مثل الأنسولين، ثم المضادات الحيوية، ومجموعة السولفاناميد، وغيرها. هذا عدا الأمصال الواقية؛ فإن كل هذه الأشياء لم يعرفها في الجامعة، وهو إذا كان قد جمد وكف عن الدراسة عقب الجامعة فإنه قد عاش بعد ذلك جاهلا لحرفته.
وهكذا الشأن في سائر المعارف؛ فإنها دائمة التجدد، تطالب من تخصصوا فيها بمتابعة الدراسة، ولنذكر مثلا الطاقة الذرية.
والغاية من هذا الكتاب هي أن نوضح للقارئ ميزات الثقافة، وخير الأساليب التي يجب أن تتبع في تحصيلها؛ إذ لو عرف الشاب أن هناك لذة سامية في الدراسة والتوسع الذهني تزيد على ما يجد من لذة اللهو السخيف، أو حتى في القراءة جزافا، لما أهمل تثقيف ذهنه، ولما تأخر لحظة عن وضع البرنامج وتحمل التكاليف لهذا التثقيف.
وأرجو أن يجد القارئ هنا إيحاء وإرشادا معا، فينبعث إلى الدراسة، ويجد في الوقت نفسه نظاما يتبعه، وليس الغرض من هذا الكتاب التثقيف من أجل الحرفة، وإنما أرجو به أن أحمل الشاب على أن يتعود الدراسة وهو لا يزال في شبابه حتى إذا بلغ الخمسين أو الستين كانت عادته اللازمة التي تضعه في تساؤل استطلاعي طيلة حياته، وأحب أن أحمله أيضا على أن يحس أن الدراسة في الشباب تغير أمداء مستقبله، وتفتح له أبوابا في رقيه كانت تكون موصدة لولا هذه الدراسة.
المجتمع يربينا
لصديقي الأستاذ أحمد جمعة كتاب (لما يطبع) يدعو فيه دعوة غريبة عن أذهاننا، هي الاستغناء عن المدارس اكتفاء بالمجتمع؛ أي إن المجتمع يجب أن يربينا، وأننا لسنا في حاجة إلى مدارس ننتظم فيها تلاميذ كي نتعلم.
وغرابة هذه الدعوة تعود إلى أننا نشأنا في بيئة جعلت المدارس مألوفة في مجتمعنا، نكاد لا نجد مدينة بل قرية تخلو منها، ولكن لم تكن الحال كذلك قبل بضعة قرون، حين كانت المدارس قليلة لا تنشأ إلا في العواصم، وكان الناس يتعلمون الصناعات والفنون التي يحترفونها بالانتظام في «الطوائف»، والطائفة هي الجماعة التي كانت تتألف للاشتراك في الحرفة، يدخلها الصبي فيتعلم، ثم يتدرج إلى أن يصير عاملا، فمعلما.
وقد كان نظام الطوائف عاما في مصر إلى أيام إسماعيل باشا، كما كان عاما في أوروبا في القرون الوسطى، بل إن نظام الجامعات القائم الآن في أوروبا، وهو النظام الذي يجعل الجامعة مستقلة، إنما نشأ على غرار نظام الطوائف؛ لأن كل طائفة حرفية كانت مستقلة في قبول أعضائها وتربيتهم ومعاقبتهم، وكلمة جامعة تعني طائفة أو - كما نقول الآن - «نقابة».
ومن الحجج التي يقدمها أحمد جمعة على أن المدرسة غير ضرورية أن كثيرا من الزعماء والأدباء والعلماء لم يتعلموا في مدرسة ما، أو كان تعليمهم ناقصا، مثل داروين داعية التطور، بل مثل كمال أتاتورك، وستالين، وبرناردشو.
ولسنا هنا نقول بالاستغناء عن المدرسة، ولكنا مع ذلك يجب أن نعترف بأن في المجتمع الحسن فرصا كثيرة لتعليمنا نستطيع أن ننتفع بها في تثقيفنا، وكلنا يعرف أن «الورشة» أي المصنع الصغير، هي مدرسة فنية لجميع العمال الذين يعملون فيها، وكثيرا ما رأينا هؤلاء العمال يخرجون من الورشة كي يستقلوا ويعملوا ويكسبوا بما تعلموه فيها.
Halaman tidak diketahui
ولكننا لا ننظر إلى المجتمع من حيث إنه يعلمنا الحرفة، بل من حيث إننا نستطيع أن نستغله لتثقيفنا الذاتي؛ لأن هذا هو موضوعنا، والمجتمع العصري الحسن يزودنا بكثير من وسائل التثقيف، مثل الجريدة والمجلة والكتاب والسينماتوغراف والراديوفون والمتحف والنادي بل والمنزل، وهو يتيح لنا الفراغ الكثير، وجميع هذه الأشياء في المجتمع الحي الحسنة، وجميع هذه الأشياء في المجتمع الموات سيئة، وكل واحد منها يمكن أن يكون وسيلة قوية للتثقيف أو للتسخيف، وسنرصد فصولا لبحث ذلك في هذا الكتاب.
فأما الجريدة والمجلة والكتاب فإنها في مقدمة الوسائل، ولا يمكن أن يخلو منها بيت متمدن أو يستغني عنها رجل متمدن، وأولئك العظماء الذين قادوا الأمم في الأدب والسياسة والعلوم دون أن يحصلوا على تعليم مدرسي أو جامعي، إنما تحققت لهم هذه القيادة بما امتاز به مجتمعهم من جرائد ومجلات وكتب حسنة، ومن المستحيل أن ينشأ مثل هؤلاء الرجال في مصر، حيث معظم الجرائد والمجلات والكتب غير حسن، والمكتبة الحسنة لا تقل قيمة عن المدرسة أو الكلية الحسنة، بل لعلها تزيد.
والمجتمع الحسن يزودنا بالمتحف التاريخي أو العلمي، مع الكتب التي تشرح وتنير عن معروضاته، والشاب المصري الذي يدرس معروضات المتحف المصري أو المتحف العربي، أو يزور حديقة الحيوان بالجيزة (ولا أذكر حديقة السمك الحقيرة) يجد فيها جميعها تثقيفا مفيدا، بل كذلك المتحف الزراعي. ولو أقبل الجمهور على زيارة هذه المتاحف بغية الدرس والانتفاع لعنيت الحكومة بها، وفي هذه الحال يمكنها تعيين الخبراء للشرح والتنوير.
والراديوفون ينشر ثقافة عامة، أكثرها بالطبع تلك الأغاني الشعبية والموسيقا العامية والقليل من المحاضرات الخفيفة، ولكنه كثيرا ما ينحط حتى تصير أغانيه أغانيج، وموسيقاه ألاعيب، ومحاضراته دعايات؛ وعندئذ لا يكون للتثقيف وإنما للتسخيف.
وقد عني صديقي الأستاذ حنا رزق بتحليل الإذاعات في القاهرة، فوجد (في 1946) أن محطة الإذاعة تخص الأغاني والموسيقا بنحو خمسين في المئة من وقتها، ولا تخص المحاضرات التثقيفية إلا بمقدار 3,63 في المئة من وقتها، وإليك الأرقام المضبوطة كي تقف على القيمة التثقيفية للمذياع:
49,18
للأغاني والموسيقى
14,24
للقرآن الكريم
2,32
Halaman tidak diketahui
للمواعظ الدينية
5,52
لبيانات وخطب من الموظفين الحكوميين
3,63
للمحاضرات والأشعار
2,01
للأخبار
1,74
للأطفال
1,45
Halaman tidak diketahui
للرياضة
0,87
للقطع المسرحية
وهذه الأرقام تدل على أن الأمة لا تنتفع كثيرا بمحطة الإذاعة، وخاصة إذا عرفنا أن المحاضرات التي لا تأخذ من وقت المحطة سوى 3.63، لا يقوم بها في العادة المثقفون من الطراز الأول، بل إن الوزارات المتعاقبة كانت ولا تزال تفرض امتحانا حزبيا للثقافة، بحيث كانت تحابي أصدقائها وتقاطع خصومها في محاضرات الإذاعة. •••
والمجتمع الحسن ينظم العمل، وبهذا التنظيم يزيد الفراغ لكل عامل، فيستطيع أن يرصد منه وقتا كثيرا لترقية ذهنه بالمعارف، وهو أيضا يزيد الكسب، ويجعل كل فرد قادرا على الاستمتاع الثقافي بزيارة المعارض والمتاحف وبالسياحة وارتياد المسارح والمكتبات العامة، ولكل واحد من هذه الأشياء قيمة ثقافية كبيرة في المجتمع الحسن، ولكن قيمتها تنقص في المجتمع السيئ.
والشاب الذي يقصد إلى تنوير ذهنه وتربية نفسه يجد الفرص لذلك متعددة؛ ففي مدينة مثل القاهرة، قلما يمر يوم دون أن نقرأ عن محاضرة ستلقى آخر النهار، وهذه المحاضرات متنوعة، وكثير منها مفيد منير، وزيارة إحدى المحاكم في قضية جنائية أو مدنية تحث على التفكير الاجتماعي وتشعرنا بمسئوليات جديدة.
ولكن يجب أن نقرر أن المجتمع الذي يربي هو المجتمع الحسن؛ أي المجتمع الذي فشت فيه المتاحف والمعارض، وارتقى فيه المسرح، وأبيحت فيه الحرية للكاتب الصحفي والمؤلف المخلص، أما المجتمع المتأخر الذي يحد من الحرية، حيث تغذو الصحف الجمهور بنخالة الثقافة، والذي تقل فيه المتاحف، ويستحيل فيه الممثل إلى مهرج، والذي يرهق أبناءه بالعمل، فينقص فراغهم أو يجعلهم تخور قواهم فلا يجدون الوقت أو الجهد للاستمتاع الذهني، هذا المجتمع لا يمكنه أن يربي، ومن البعيد بل من المحال، أن ننتظر منه أن يخرج لنا المثقفين فضلا عن علماء بارزين.
إن المجتمع الأمريكي الراقي قد أباح للمسجونين أن ينتسبوا إلى الجامعات، ولكن مجتمعنا المصري إلى الآن لم يكن يبيح للطلقاء أن ينتسبوا إلى الجامعات لكي يستغلوا فراغهم، والمجتمع الراقي في جميع الأمم الديمقراطية يبيح إنشاء الجريدة أو المجلة دون أن يطلب من صاحبها تأدية غرامة معينة، كما كانت الحال عندنا وعند الأمم المنحطة.
والمجتمع الراقي يعنى بالمكتبة كما يعنى بالمدرسة، ففي لندن مثلا ما لا يقل عن مئتي مكتبة للقراءة والاستعارة بالمجان، أو بأجور منخفضة جدا، وفي لندن أيضا نحو مئة متحف، والمقاهي في تركيا تتزود كل منها بخزانة صغيرة من الكتب والمجلات كي يقرأها زبائنها، والحكومة الأمريكية تبعث بلوريات كبيرة مشحونة بالكتب إلى الريف؛ كي تعير الفلاحين ما يشاءون منها وتعود بعد أسابيع كي تستبدل بالمجلدات مجلدات أخرى، وكلمة «شوتوكوا» من الكلمات المأثورة في الولايات المتحدة لأنها تعني حملة ثقافية قامت بها جمعية بهذا الاسم بين سنتي 1870 و1946 في الريف لإلقاء المحاضرات بين الفلاحين، وكانت تقصد إلى القرية النائية فتضرب خيامها وتقدم المشروبات والمحاضرات وألوانا من الغناء والرقص والموسيقى.
وإذا نحن قارنا بين المدرسة والمجتمع من حيث أثرهما في التربية، مع فرض أن الاثنين يستويان في الرقي؛ فلا مفر من أن نقول إن المجتمع يحسن التربية والمدرسة تحسن التعليم، والتربية أعم من التعليم، والثقافة في المدارس والجامعات أسلوبية تسير على قواعد، وكثيرا ما تجمد، ولكن الشاب الذي يربي نفسه في المجتمع يتجه اتجاها ابتكاريا في ثقافته، وهو لهذا السبب أكثر حرية في تفكيره من طالب الجامعة، ثم إن القواعد الببغاوية في استظهار البرنامج المدرسي وأحيانا الجامعي، تمنع الطالب من التوسع في الموضوع الذي يدرس، أو الاستطراد منه إلى دراسات أخرى يستمتع بها الطالب الحر الذي لا يتقيد بامتحان.
Halaman tidak diketahui
لماذا نثقف أنفسنا
يعسر على الرجل المثقف أن يتمالك نفسه وهو يشرح الأسباب التي يجب أن تحمل الناس على أن يكونوا مثقفين؛ لأنه في هذا الشرح بمثابة من يزجرهم عن القذر أو التوحش أو البهيمية، ويوضح لهم قيمة النظافة أو الإنسانية أو التمدن، فنحن هنا في حاجة إلى أن نقول للشاب المتخم بالفراغ والشباب والجدة: إنه يجب أن يثقف نفسه حتى لا يفسد. ويجب أن نقول لغيره إن الحياة الناضجة تحتاج إلى الثقافة، وإن هناك من الناس من يصح أن نسميهم بقولا بشرية؛ إذ ليس لهم من سمات الحياة سوى النمو الخلوي، كأنهم فجل أو جرجير، وسيبقون نفسيا وإنسانيا في عداد البقول إلى أن يثقفوا أنفسهم، وإن الحياة الخاوية تحدث سأما لا تتخلص منه إلا بالثقافة التي تبعث على الاهتمامات الذهنية وتبسط الآفاق.
وفي الفصل الأول أشرنا في إيجاز إلى أن المدرسة والجامعة لا تكفيان لتربيتنا؛ لأن المعارف أكبر من أن تحتوياها، ثم هذه المعارف ترتقي وتمحص؛ فهي لا تفتأ في تنقية وتنفية، فيجب لهذا السبب أن نكون طلبة مدى حياتنا، نحس النمو الثقافي، ونتدرج في التمييز الذهني.
ثم يجب أن نعرف أن حياة الفرد قصيرة محدودة، قلما تزيد على 70 أو 80 سنة، ولكن حياة النوع البشري طويلة، ونحن حين ندرس إنما ننقل حياة النوع إلى حياة الفرد واختبارات الآلاف من السنين الماضية إلى اختبارات العمر الشخصي القصير؛ أي إننا عندما ندرس التاريخ البشري، والثقافة القائمة في عصرنا مع الثقافات المتعاقبة في العصور الماضية، نفهم المغزى من الحياة أكثر مما نفهمه من حياتنا الخاصة، وإحدى غايات الثقافة هي أن نكسب الحياة دلالة ومغزى؛ أي إننا نحس أننا لا نحيا الحياة البيولوجية التي لا تختلف عن حياة الحيوان، ليس لنا من معارف سوى ما يكفي للكسب المادي، بل نعيش الحياة الروحية التي ندرك منها أننا حلقة في سلسلة طويلة من البشرية التي تتمثل فينا أغراضها وأهدافها ومثلياتها، وبهذا نرتقي إلى مستوى عال له لذاته الأنيقة، كما أن له أخطاره السامية، التي يجب أن نواجهها.
ثم إن نظم التعليم - بل كذلك نظام الحرفة - يحيلنا إلى متخصصين، نعرف فنا ونمارس حرفة، وفي حدود هذا الفن وهذه الحرفة نعيش المعيشة المحدودة؛ فالثقافة هنا تحيل هذا التضييق إلى توسع، وتكبر العقل، وترحب القلب، فنجد عندئذ التسامح البشري بدلا من التعصب القومي، والنظر العالي بدلا من النظر القروي.
وانتشار التخصص في أيامنا قد غرس عقيدة فاسدة بين الجمهور، هي أن المعارف - علوما وفنونا وآدابا - لا يمكن أن يدرسها غير المتخصصين، كل في الفرع الذي يختار، وأنه ليس على الطبيب أن يعرف التاريخ، وليس على الأديب أن يعرف الفلك، وليس على المهندس أن يدرس الاجتماع. وهذه عقيدة مخطئة يجب أن تكافح حتى تمحى، وصحيح أن المتخصص في علم معين يجب أن يعرف الكثير منه، أصولا وفصولا، ولكن هذا لا يمنع غيره من المثقفين أن يدرسوا الأصول، بل يناقشوها، بل يبينوا ما ربما يكون زيفا فيها.
وليس قصدنا أن نقول إنه يجب على كل منا أن يكون موسوعة تحوي جميع المعارف؛ فإن هذا محال، وهو لو قدر لما انتفعنا به، ولكن المعارف في الحضارة القائمة مشتبكة، بحيث إذا شاء الطبيب في مصر مثلا أن يدرس مشكلة الأمراض المتوطنة لوجب عليه أن يدرس السياسة الزراعية والخطط الاقتصادية اللتين اتبعتا في مدى سبعين سنة مضت إلى وقتنا، وقارئ الجريدة اليومية يجب - كي يتعرف التيارات السياسية والاجتماعية - أن يدرس تاريخ الحركة الصناعية، وتفشي الاشتراكية، وتصادم الإمبراطوريات الأوروبية منذ 150 سنة إلى الآن؛ لأن الحوادث اليومية الهامة في العالم ليست سوى الطفاوة فوق هذه التيارات، ودلالة هذه الحوادث تنعدم إذا لم تفهم هذه التيارات.
وليس شك في ضرورة التخصص، ولكن الرجل المثقف يرفض الحدود والسدود، ويتسبيح لنفسه جميع المعارف؛ لأنه يحس أنه محتاج إليها وأنه ينمو بالاغتذاء بها، بل هو يتطور بها، والتطور حق بل واجب على كل إنسان.
فنحن نثقف أنفسنا كي نكبر شخصيتنا، وننمي أذهاننا، وكي نتطور، فلا نموت في سن السبعين ونحن على حال ثقافية قد اكتسبناها من الجامعة أو المدرسة في سن العشرين أو الخامسة والعشرين، بل نظل عمرنا ونحن في دراسة تفتأ تغيرنا التغير الذهني والنفسي؛ لأنه بدون هذا التغيير لا يتطور المجتمع أو الفرد، بل إن السعادة الشخصية تحتاج إلى الإحساس بالنمو والتغيير والتطور، وأساس كل ذلك هو الفهم الذي يعد أعظم أنواع السعادة.
وفي العالم الآن نحو 130 علما وفنا، هي تراث بشري من حق كل فرد أن يعرفه بل يقتنيه، وهو إذا كان قادرا بالمال والوقت، فإن هذا الحق يعود واجبا؛ فإن ديانة كونفوشيوس الصيني، ومكتشفات الهورمونات، وصلوات أخناتون، والنظام الاشتراكي في روسيا، والقوانين الكهربية، وحياة أفلاطون، وماهية الذرة، كل هذا من حقي وحقك أن نعرفه، ومحال أن تعلمنا الجامعة أو المدرسة هذه المعارف؛ لأن مدة الدراسة فيها قصيرة.
Halaman tidak diketahui
وثم اعتبار آخر، هو العلاقة الحيوية بين الذهن والثقافة، حين ندرس مختارين متطوعين ليس علينا قسر، فانظر مثلا إلى شاب في السابعة عشرة من عمره يقرأ موضوع التناسليات؛ فإنه يطلب هذه المعارف كما تطلب المعدة الطعام؛ لأن حاجته هنا تنبع من نخاع عظامه وأعماق نفسه، أو انظر إلى رجل قد فات الخمسين يدرس الدين، فإن كنوزه من الاختبارات الماضية تجعله يطلب هذه المعارف بقوة وذكاء وحرص وتدقيق لم يعهد مثلها من قبل، أو انظر إلى قيمة الجريدة اليومية أيام الحرب، حين يستحيل كل منا إلى بسمارك أو جلادستون، ليس له حديث غير السياسة، حين يصير مستقبل العالم كأنه مستقبلنا الخاص.
فهذه الظروف جميعا تجعلنا نقبل على القراءة، وبعيد جدا أن ننقل هذا الجو إلى المدرسة أو الجامعة؛ لأنه جو محلي محدود في أغلب الأحيان، ومن هنا قيمة التثقيف الذاتي.
زيادة الفراغ وزيادة المسئولية
هناك أسباب أخرى تحمل كل شاب على أن يثقف نفسه.
وأول هذه الأسباب وأوضحها أن الفراغ يزداد؛ فإن استخدم الآلات، أي الحديد والنار والكهرباء، قد خفض ساعات العمل للكسب، وسوف يخفضها أكثر في المستقبل، ولن يكون اليوم بعيدا حين نصل إلى مجتمع راق يكفي أحدنا كي يحصل على عيشه، أن يشتغل ساعتين في اليوم، ثم يفرغ سائر نهاره وليله لراحته ومتعه الذهنية والجسمية والروحية، ونحن نرى في الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد السوفيتي ما يومئ إلى هذه الحال؛ فإن سكان الولايات المتحدة قد اشتبكوا حوالي سنة 1860 في حرب أهلية بسبب العبيد، وكان فريق منهم يعتقد أن من حق الأبيض أن يملك العبد الأسود، يشتريه ويستغله ولا يتكلف في ذلك سوى طعامه.
ولكن الحرب أدت إلى إلغاء الرق، ومع ذلك صار الأمريكيون أكثر ثراء وأوفر فراغا مما كانوا أيام الرق؛ ذلك أن استخدام الآلات في الإنتاج قد جعل كل أمريكي يملك أكثر من خمسين حصانا (من القوة) هي بمثابة مئة عبد، وكان الأمريكي يعمل حوالي سنة 1860 نحو عشر ساعات أو 12 ساعة في اليوم كي يحصل على عيشه، أما الآن فهو يعمل نحو ست ساعات، مع عطلة أسبوعية هي يومان كاملان، وهذه الساعات الست سوف تكون خمسا، ثم أربعا ... إلخ؛ ذلك لأن الآلات في تقدم لا ينقطع.
وكذلك الشأن في الاتحاد السوفيتي، حيث تخلص الشعب من عذاب القيصرية وأخذ في إنشاء المصانع فزاد الأفراد ثراء وفراغا معا.
وهذه الحال - على الرغم من المبادئ الإمبراطورية والاستعمارية الشائعة - سوف تعم الدنيا، فيجب أن نوطن أنفسنا على أن الفراغ سيزداد، وهذا الفراغ سيثقل علينا عبئا باهظا إذا لم نشغله باهتمامات ثقافية حيوية، ونحن حين نتوسم طوالع المستقبل نحس أنه يجب على المدارس من الآن أن تعلم تلاميذها كيف يقضون فراغهم أكثر مما يجب عليها أن تعلمهم كيف يحصلون على عيشهم؛ ذلك لأن تحصيل العيش لن يحتاج إلى أكثر من ساعتين في اليوم، وهو لم يعد فنا؛ لأن العامل يندمج بين آلاف العمال فيتحيز جزءا صغيرا من العمل الذي يؤديه تأدية آلية خالية من المجهود العضلي تقريبا، أما الفراغ فلن يقل عن 22 ساعة، إذا فرضنا أن 10 ساعات منها تقضى في الطعام والنوم، بقيت 12 ساعة يجب أن يشغلها بما يرقيه، فإذا جهل الوسائل لهذه الترقية فإنه يحس خواءا ذهنيا لا يطاق، أو هو يملأ فراغه بتسليات سخيفة، أو ربما يقع في غوايات ضارة.
لقد كان الفراغ في العصور القديمة مقصورا على النبلاء والأثرياء، وكان ترفا غاليا لا يحصل عليه الفقير، وجمهور الأمة كان من الفقراء، ولكن هذا الترف يستفيض - بفضل الآلات - بين جميع أفراد الشعب، حتى عمال الزراعة أنفسهم سوف يجدون هذا الفراغ حين يتركون آلاتهم البدائية ويستعملون آلات القوة البخارية والموطرية، والتثقيف الذاتي لهذا السبب ضرورة حتمية كي نملأ بها هذا الفراغ ونستغله.
وسبب آخر يجعل هذا التثقيف حتميا: أن المجهود العضلي الذي كنا نبذله في الزراعة والصناعة والتجارة قد استحال إلى مجهود ذهني؛ فالقوة العضلية في الإنسان لم تعد لها قيمة كبيرة إلا في المباريات الرياضية، والمصانع تؤسس الآن في الأمم المتمدنة التي نرجو أن نصل إلى مستواها، بحيث تكاد تعمل مستقلة أتوماتية، فتتسلم المواد الخامة من ناحية وتخرجها من ناحية أخرى مشغولة مهيأة للاستعمال، وكل ما على العامل أن ينظر ويشرف ويصل هذا المفتاح بذاك.
Halaman tidak diketahui
والعامل في هذا الحال موفر القوة العضلية، وهو يترك عمله مرتاحا مستعدا لأن يقوم بأي مجهود آخر، فهو ليس مثل ذلك العامل الذي يترك عمله عندنا منهوكا لا يستطيع النظر في الجريدة أو كتاب، حتى لو وجد الفراغ للقراءة.
ولكننا أيضا صائرون إلى هذه الحال في مصر؛ أي إن العمل لن يجهدنا، ولن يستهلك سوى أقل الوقت، فنخرج منه مرتاحين مستعدين للفراغ الذي نملؤه بما يرقينا ذهنيا ونفسيا وروحيا.
وسبب آخر يجعل التثقيف الذاتي حتميا، وهو في نظر المؤلف أهم الأسباب: أن مسئولية الفرد قد أصبحت خطيرة، فقد كانت الدنيا تسير في العصور السابقة بحكم الملوك والأمراء والنبلاء والوزراء، أما الآن فإن الدنيا كلها تتجه نحو الديمقراطية، حيث أفراد الشعب يجب أن يكونوا الحاكمين الحقيقيين، ولا يمكن الفرد أن يضطلع بالحكم إلا إذا كان مستنيرا في شئونه، والحكم هنا هو حكم الدنيا كلها؛ لأن الشر - كالوباء - لا يتجزأ ولا يتحيز، فكما أن الوباء ينتقل من قطر إلى قطر، كذلك الشر والسياسة (مثل المبادئ الإمبراطورية والاستعمارية والفاشية) تنتقل بالعدوى، وتحدث الدمار والخراب في أنحاء العالم بالحروب والثورات والانفجارات.
وتقدم الآلات الذي ذكرنا، والذي قلنا إنه سيزيد فراغنا، هذا التقدم نفسه قد جعل خطر الحروب بل خطر الاستبداد كبيرا جدا، فلا يمكن أن نتقيهما إلا إذا جعلنا كل فرد في أنحاء العالم مثقفا مستنيرا يميز بين المعرفة المرشدة وبين الدعاية المضللة.
وظهور الأخطار الذرية والهيدروجينية يجعل التثقيف الذاتي ضرورة حتمية؛ لآن غير المثقف لن يفهم هذه الأخطار، بل هو قد يساعد بجهله على الدعاية لها وصنعها.
فإذا ألممنا بجميع هذه الاعتبارات، أمكننا في حق وصدق أن نقول إن التثقيف الذاتي هو واجب ديني على كل إنسان؛ لأنه الضمان للحكم الصالح على هذا الكوكب.
كيف نربي أنفسنا
كان جرانت ألين الأديب الإنجليزي يقول على سبيل التهكم بالمدارس: يجب أن نمنع المدارس من التدخل في تربية أولادنا.
وهو بذلك يعني أن المدارس لا يمكنها أن تربي الناس، وأنها إذا حاولت ذلك فلن تنجح، وأن مكان التربية الحقيقي هو البيت أو الشارع أو المجتمع، ولا يشك أحد الآن في أن قدرة المدرسة على التربية لإيجاد النزعات، وتكوين الأخلاق، والتوجيه الاجتماعي أو الفلسفي، صغيرة وأننا نحصل على هذه الأشياء جميعها من بيئات أخرى غير المدرسة، وهي تتكون وتنمو معنا نمو الحياة.
ولكن على فرض أن المدرسة تربي كما تعلم، فإن الناس ليسوا سواء في الحصول على الفرص المدرسية أو الجامعية؛ فإن منهم من يقتصر على التعليم الابتدائي، ومنهم من يصل إلى الشهادة الثانوية، وعدد الذين يحصلون على تعليم جامعي صغير محدود.
Halaman tidak diketahui
وتكاد التربية تكون عملا فسيولوجيا؛ فان الجسم لا يطلب الطعام إلا عند الجوع، ولا يطلب الماء إلا عند العطش، وهو يأخذ من الماء والطعام بالقدر الذي يحتاج، وفي الوقت الذي يحس فيه عاطفتي الجوع والعطش، وهو يختار ما يحب، ويعزف عما يكره، وكذلك الشأن في التربية؛ فإن الإنسان متى جاز طور الطفولة أو الصبا عرف كفاءته وبراعته، وأدرك حاجته الثقافية، وطلبها بالقدر الذي يمكنه أن يهضمه ويمثله، وكما أن الطعام يستحيل شيئا آخر في الجسم غير ما كان عليه قبل أن يهضم ويمثل، كذلك المعارف تمتزج بنفوسنا وتحرك نشاطنا وتبعث طموحنا، ويختلف تأثيرها من شخص إلى آخر لاختلاف الحاجة النفسية عند كل منهم؛ ومن هنا قولنا إن التعلم عمل فسيولوجي لأن له دورة في النفس، كما أن للطعام دورة في الجسم؛ ولذلك خير من يربي الشاب هو الشاب نفسه لأنه حين يشتهي الوقوف على موضوع ما إنما يشتهيه لحاجة نفسية، وهذه الحاجة هي بمثابة الجوع الذي يهيئ للهضم والتمثيل.
وأعظم ما يعاب على المدرسة أنها تعلمنا المواد، أو تعطينا المعارف، ولكنها لا تعلمنا المنهج أو الطريقة التي يمكننا بها أن نحصل على هذه المواد والمعارف ونتزيد منها، وصحيح أن المدارس «الناهضة» التي اتبعت طريقة «المشروع» وغيره من الطرق قد انتبهت إلى هذا الركن الأساسي من التربية وشرعت تعالجه. ولكن، إلى أن تعم المدارس الناهضة، سيبقى شبابنا وهم قاصرون مقصرون في المدارس، وسيبقى فضل التربية الذاتية واضحا بارزا على التربية المدرسية لهذا السبب.
وبواعث التربية الذاتية تختلف، فهي عند أحد الشبان حاجة يحسها بشأن العمل الذي يمارس، من حيث إنه يريد الاستزادة أو التكمل فيه، وعند غيره هواية قد شغلت ذهنه، وهي تتفتح أمامه بضروب من الارتياد الذهني، وعند آخر قد يكون الباعث قراءة الجريدة اليومية، والرغبة في الوقوف على العوامل الكامنة التي تختبئ وراء السياسة الظاهرة.
ولكل شاب فترة في حياته، تقع بين السابعة عشر والخامسة والعشرين، يحس فيها رغبة حارة للاطلاع كأنها الحمى، وقد يسوء استغلال هذه الفترة؛ لأن الأبوين يكفان ابنهما مثلا عن هذا الاطلاع ويميتان فيه اليقظة، ولكن الأغلب أن الشاب يجد في هذين السنين بواعث قوية تطلق ذهنه على الرغم من جميع القيود للتعرف إلى كثير من المشكلات الإنسانية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية، وقد يكون لهذه الحمى الثقافية علاقة فسيولوجية بتطور النمو في الشاب وانتقاله من الصبا إلى الشباب، وما يؤدي إليه هذا الانتقال من حيرة تبحث على التطلع الجنسي أولا، ثم يتسع هذا التطلع إلى أن يصير بعد ذلك تطلعا ثقافيا.
وفي هذا الفترة يتعود الشاب القراءة حتى تصير هواية يشغف بها، وبعيد أن يتعلق بالثقافة إذا فاتت سن الشباب، وفي هذه الهواية يجد من النظريات والأفكار ما يعد محوريا أو بذريا في نموه الذهني فإن المعارف ليست سواء؛ لأن بعضها يقع في التربة الذهنية جامدا لا يلقح، وبعضها يجد خصوبة فينمو ويمتزج ويتفرع إذ هو بمثابة البذرة الصالحة للنمو، وبتوالي السنين وباصطدامنا بالحوادث التي تتفاعل أذهاننا بها، تتجمع عندنا طائفة من الأفكار نعتنقها كأنها المبادئ أو العقائد أو المذاهب، فنحن نقرأ كي نتوسع فيها وندافع عنها، فتصير لنا بمثابة الحافز الذي يحفزنا على الاستزادة من الدرس والتوسع.
كل قارئ تقريبا سيجد الأفكار المحورية أو البذرية تنشأ ثم تنمو في ذهنه؛ وعليه عندئذ أن يرعاها بالتوسع في القراءة المنظمة والدرس المتواصل، وقد عرفنا كثيرين من الشبان، كان السبب لتعمقهم في الإنجليزية أو الفرنسية رغبة حارة في استقصاء أحد الموضوعات العلمية، كما عرفنا شبانا آخرين كانت التربية المدرسية تنقصهم، ولكن حمى الاطلاع أصابتهم حوالي الثامنة عشرة من العمر، فاندفعوا في تيارها وحصلوا من الثقافة على لا ما يمكن لأي تعليم مدرسي أن يزود أحدا من التلاميذ به، وعرفنا آخرين أصبحت التربية الذاتية عندهم عادة، فصارت لهم في بيوتهم مكتبات كفتهم عن التعرف إلى المفاسد التي يقع فيها زملاؤهم من الشبان الذين لم يهووا القراءة، كما رفعتهم إلى درجة عالية من التمييز.
ولكن كيف يمكن للشباب أن يعمد إلى تثقيف نفسه إذا كان قد ساء حظه فلم يتعلم التعليم الكافي في المدرسة، ثم لم يجد في نفسه تلك الحمى التي أشرنا إليها، أو وجدها ثم لم يستطع الانتفاع بها لظروف مختلفة؟
وللجواب على هذا السؤال نقول: إن مثل هذا الشاب قليل؛ لأن هذه الحمى الثقافية تكاد تكون طبيعية، والمحموم بها يتغلب على جميع العوائق، ولكن لنفرض أن شابا بلغ العشرين أو الخامسة والعشرين ويجب أن يشرع في برنامج ثقافي، فكيف يفعل؟
يجب أن يعمد قبل كل شيء إلى الجريدة اليومية، يقرؤها في الصباح كي ينبه ذهنه إلى الحوادث الخطيرة ويتصل بالمجتمع العالمي ويلقي عليه نظرة عامة، وفي الجريدة مشروعات وأخبار وحوادث يجب أن تبعث التفكير عند الإنسان العادي، وبالطبع تختلف الجرائد في النزعة الثقافية ومقدار عنايتها بالفنون والعلوم السياسة، ولكن القارئ لا بد مهتد إلى ما يلائمه.
ثم يجب عليه أن يتدرج من الجرائد اليومية إلى المجلة الراقية، ثم إلى الكتاب، ونحن نقول «يجب عليه » ولكن الحقيقة أن الرغبة ستدفعه في نشاط وحرارة إلى اختيار المجلات والكتب متطوعا بلا إجبار، ومتى فعل ذلك فإنه يكون عندئذ قد وصل إلى «الطريق الملوكي» للثقافة؛ وذلك أنه سيعين لنفسه غاية ثقافية كأنها البوصلة، يتجه بها وينشد المعارف ويجمعها للوصول إليها، ولما كانت الثقافة فسيولوجية في أسلوبها فإن الرجل المثقف سيأخذ منها أنواعا ومقادير تأتلف وطاقته ومزاجه؛ ولذلك كثيرا ما ينسلخ الإنسان من ثوبه الثقافي ويستحيل شخصا آخر، كما تنسلخ العذراء من الخدر وتصير حشرة كاملة.
Halaman tidak diketahui