40
هذا رأي ثلاثة رجال، أولئك هم أرسطو وأفلاطون وبقراط في عبقرية اليونان، إنهم لم ينفوا عن الإغريق المؤثرات الخارجية التي آثارها أظهر من أن تخفى، ولكنهم اهتموا على الخصوص بالأسباب الأخلاقية، وما ضلوا فيما ذهبوا إليه؛ لأننا نحن الآن أكثر تنورا، بما أصبنا من التجربة الطويلة، لا نستطيع أن نزيد شيئا على هذه الاعتبارات الصادقة المستمدة وجودها بنوع ما من الحس، فلتبق إغريقا إذا ما كانت في العصور الأولى مدفونة في طيات مجدها، ولكن خالدة ما خلدت أعمال الإنسان التي تقع في يوم من الأيام ثم تتلقفها أيدي البلى مهما كان موضعها من الجمال والكمال.
كنت أريد أن أفرغ من هذه المقدمة التي طالت أكثر مما ينبغي، ولكنها من هنا لا تكون كاملة إذا لم أرجع بها إلى الكلام على الكتابين اللذين تتقدمهما، وإذا لم أبسط القول على المسألة الكبرى التي تشبثت بها مدرسة إيليا، تلك المدرسة التي يمثلها إكسينوفان وميليسوس، أعني بها وحدة الموجود وعدم تغيره. وما أدراك ما هي تلك المناقشة التي ثار ثائرها في بداية الفلسفة وقام بها رجال تقلبوا في الأعمال الحيوية من حرب وسياسة وسياحة واستعمار؟ وإذ نراهم فلاسفة ونظريين نراهم جميعا يزاولون المقاصد العملية بهمة مدهشة، وأنى لنا إدراك التوفيق بين الحالين إذا لم نلم بالأخلاق والعادات والضرورات التي كانت في تلك الأزمان المضطربة! كان طاليس في جيش الياط، وكان أحد المؤتمرين في البانيونيوم، وفيثاغورث يجوب البلاد الأجنبية زمنا طويلا على كثرة الأخطار وبعد الشقة، وإكسينوفان الذي نفى نفسه طوعا من وطنه المقهور بالفرس يذهب للانضمام إلى الفوكيين فيما وراء البحار، وميليسوس يدافع عن سموس ضد الآتينيين بعزمة لم يتغلب عليها بيريكليس إلا بعد طول العناء.
أولئك قواد وساسة يشتغلون بما وراء الطبيعة! أمر شديد الندرة دائما! وفوق ذلك فإنهم يظهر عليهم أنهم فنوا في دقة التدليل، تلك الخاصة التي كانت تتهم بها عن بينة مدرسة إيليا. إذا سلمنا بما ذكره أفلاطون في كتابه المسمى «برمينيد» فإن ذلك الانتقاد والتهمة كانا من الصحة بمكان، ولا شك أن من الغريب أن تملك التدقيقات المنطقية على مثل هؤلاء الرجال عقولهم، غير أنه يجب التنبيه إلى أن برمينيد مع كونه تلميذ إكسينوفان وخليفته قد شرع لنفسه طريقا غير طريقه، فمسخ من أفكاره وغلا فيها، وربما كان ذلك أثرا من آثار الروح العامة المنتشرة وقتئذ في إغريقا الكبرى، تلك الروح التي كانت وقتئذ تبدع في صقلية فن الخطابة، والتي غلت في نظريات فيثاغورث على العدد إلى حد الإفراط.
ليست تلك روح إكسينوفان التي تتجلى في المقطوعات التي بقيت لنا من آثاره، وفي الكتاب الذي أترجمه الآن في هذا المجلد. وعلى رأيي أن هذه النقطة هي التي ينبغي أن نوجه النظر إلى الإمعان فيها للإصابة في تقدير قيمة هذه المذاهب الناشئة وقتئذ، والتي لم تكن لتأخذ بعد مركزا ثابتا في العقل الإنساني في بداية هبوبه من سباته.
أول نظرة في الطبيعة التي تحيط بنا تظهر لنا بادئ الأمر وحدة الوجود، وما يكون إلا بعد ذلك بالزمان أن نميز بالجهد والتحليل أجزاء مختلفة في هذا المجموع العام الذي يسحر جلاله أبصارنا ويعيي إدراكنا. ولم تستطع الهند لا قبل الفلسفة الإغريقية ولا بعدها أن تخرج من تأثير فكرة الوحدة، بل فنيت فيها بكليتها، وبقي العلم على المعنى الخاص غريبا عنها على الإطلاق طول حياتها، كان لها نظريات للتهجم فيها نصيب قليل أو كثير، وتصورات للعقل فيها حظ وفير أو ضئيل، كلها قائمة على الأصل العام للأشياء، ولكن لم يكن فيها دراسة خاصة وضعية للظواهر الطبيعية، ذلك هو أساس العبقرية الهندية وعظمتها؛ لا يوجد شيء أكثر من ذلك في الفيدا والبرهمانا والأوبانيشاد، والأناشيد الحماسية والقوانين في الدراسات الفلسفية.
أما العبقرية الإغريقية فإنها اتقت أن تسحرها ظواهر النظرة الأولى في الوجود، ودفعت بذلك الخطر عن نفسها، ولئن كانت قد اتجهت وقتا ما إلى فكرة الوحدة فإنها قد عرفت لحسن الحظ كيف تتخلص منها لتدرس عن قرب دراسة منتجة بعض الأجزاء الأصلية لهذه الوحدة التي ليست في الواقع إلا صورة اللانهاية عينها.
ذلك هو الواقع، حتى إن طاليس حين بحثه في التعبير عن ماهية العالم كان يدرس الأصل المادي الذي تكون منه ، ومع أنه قد أخطأ هذا الأصل الذي ظنه الماء فإنه على كل حال كان يعتمد على ما يشاهد بالحس في الطبيعة ليتعرف أسرار الأشياء؛ يشتغل بالهندسة ويتتبع جريان الكواكب في أفلاكها ما دام أنه كان على وشك أن يتنبأ بكسوف الشمس. وعلى رأي أرسطو، وشهادته قاطعة في هذا المعنى، أن طاليس كان يسلم بأن العالم مملوء بالآلهة القائمة بأمر النفس وبالحركة، وليس فيثاغورث بأقل استمساكا بفكرة الوحدة مع أنه كان يجزئها، ولم تلهه استكشافاته الرياضية والفلكية لحظة واحدة عن النظر في توافق النظام العالمي، فكان يعترف بوجود طوائف متخالفة في هذا النظام، ولكنه مع ذلك يعترف على وجه الخصوص بوحدة عجيبة، وعلى رأيه أن الأضداد اثنين اثنين تكون كلا واحدا يكون أرقى منها، وأن الوحدة هي الأصل الحقيقي في العالم المادي كما هي في العدد، وبذلك ارتقى فيثاغورث إلى تعريف الله دون أن يميزه تمييزا تاما عن العالم الذي ينظمه ويسيره.
أما عند إكسينوفان فإن فكرة وحدانية الله وقدرته هي ظاهرة بغاية الوضوح دون أن يتعمق فيها كما تعمق فيها أفلاطون من بعده، وكما هو الحال على الخصوص في اللاهوت المسيحي، وأظن أن هذه النظرة الأولى في الوحدة الإلهية هي التي ألقت جلالها الباهر وخفاءها في نظريات مدرسة إيليا، وعندى أن ذلك هو الذي يفسر أغلاط هذا المذهب الشريف. إن نظر إكسينوفان لم يكن بعيد المدى - إن شئتم - ولكنه على الأقل لا يضل. أما برمينيد فإنه به ميلا إلى السفسطة التي حملت تلميذه ذنون على أن ينكر الحركة، وحملت غرغياس على تأييد أبعد مذاهب العدمية ضلالا وأقلها تنزها. وأما ميليسوس فإنه لزم الحد الوسط بين الأستاذ صاحب المذهب وبين الذين غلوا به حتى وقعوا في المحال. وإني مقارب بين إكسينوفان وميليسوس وذاكر الفروق الأساسية بينهما على ما يظهر لي: لقد كان إكسينوفان مليئا باحترام هذا المذهب الذي لم يدركه أحد من قبله بمثل ما أدركه هو من الوضوح والجلاء؛ لذلك نفى عنه خيالات الشعراء اللطيفة التي تحط من مقامه كما نفى عنه الأنتروبومورفيزم الجافي الذي هو مذهب العوام «تصور ذات الله تعالى على صورة الإنسان»، تعالى الله عما يصفون من النقائص وعن صور الكائنات الفانية وعن صور هؤلاء التعساء الذين يجعلونه على صورتهم. ليس كمثله شيء في الوجود؛ لأنه لماذا يكون المثيل خالقا بدلا من أن يكون مخلوقا؟
وإن الله الذي لا يمكن أن يأتي من موجود يشابهه لا يمكن من باب أولى أن يأتي من شيء يكون دون مقامه. إذا هو لم يخلق من شيء فيكون بالضرورة أزليا. وأخذا بنتيجة ليست أقل ضرورية من الأولى يكون قديرا على كل شيء، لو كان آلهة متعددون لكانوا أقوى أو أضعف بعضهم من بعض، وعلى ذلك لا يكون إله؛ لأن خاصة الإله أن يملك كل شيء ولا يملكه شيء أيا كان. ولما كان الله أزليا قديرا على كل شيء لزم على ذلك أن يكون واحدا؛ لأنه لو كان له منافسون لما أمكنه أن ينفذ أحكامه ويحقق إرادته العليا.
Halaman tidak diketahui