وروى أنتيفون في أول كتابه «برمينيد» نقلا عن رواية فيتودور - أحد أصحاب زنون الأيلي - قال: «لما أتى برمينيد - وكان قد تقدم في السن - إلى آتينا مع تلميذه، أقام في حي السيراميك خارج الأسوار؛ فانتقل إليه سقراط في رفقة ليسمع قراءة كتب زنون.» وكانت تلك هي أول مرة حمل فيها زنون وبرمينيد هذه الكتب إلى آتينا، وكان سقراط وقتها صغير السن، وكان زنون نفسه هو الذي يقرأ كتابه؛ لأن برمينيد كان غائبا في تلك اللحظة، وكان على وشك أن يفرغ من القراءة إذ عاد فيتودور ومعه برمينيد ومستمع آخر هو أرسطوطاليس الذي صار بعد ذلك أحد الثلاثين، ولم يسمع فيتودور إلا قليلا مما كان باقيا، ولكنه أقام إلى آخر التلاوة التي كان قد سمعها قبل ذلك في جلسة أخرى.
لما أصغى سقراط إلى النهاية طلب إلى زنون أن يتفضل بإعادة القضية الأولى من الكتاب الأول؛ فأجاب طلبه مع الارتياح، وأخذ الكتاب وأعاد الجملة التي وقف فيها سقراط، والتي أراد سقراط استحضار ألفاظها حتى يدخل في مناقشة المعاني: «إذا كانت الموجودات متعددة لزم عليه أن تكون متشابهة وغير متشابهة في آن واحد فيما بينها، وهذا مستحيل؛ لأن غير المتشابه لا يمكن أن يكون متشابها، وما هو متشابه لا يمكن أن يكون غير متشابه أيضا.» وابتدأ الجدال وقتئذ؛ فكرر سقراط قضية زنون، وسأله إذا كان هذا حقا هو ما يريده؛ فأكد زنون أن ذلك هو غرض كتابه.
فالتفت سقراط إلى برمينيد وقال له: «أرى واضحا أن زنون متصل بك لا بصلات الصداقة فقط بل بكتاباته، فالواقع أنكما تقولان جميعا معنى واحدا، وإن اختلفت العبارة، فإن أحدكما يثبت أن الكل هو واحد، ويثبت الآخر أن التعدد ممتنع.» فاعترف زنون بأن الحق في جانب سقراط، وأنه ما كتب كتابه إلا انتصارا لمذهب برمينيد ضد أولئك الذين يبغون جعله سخريا، وأن كتابه جواب على نصراء التعدد، وأن الغرض منه أن يبين لهم أن مذهبهم نفسه له نتائج أسخف من المذهب المضاد. وزاد على ذلك زنون بقوله: «إني ألفت هذا الكتاب مدفوعا بدافع المجادلة، فسرق مني قبل أن أسائل نفسي عما إذا كان ينبغي نشره أو لا ينبغي، على هذا كنت يا سقراط تخدع نفسك إذ اعتقدت أن هذا الكتاب إنما أملته علي رغبة رجل ناضج بدلا من أن تنسبه إلى شاب يميل به ما لطبع الشباب من حب المغالبة.»
واستمر حديثهم دائرا على موضوع الوحدة والتعدد بما هو معروف لديهم من المواربة والمغالطة مما أكف عن الاسترسال فيه؛ فحسبنا هذه التفاصيل دلالة على أن زنون وبرمينيد لما جاءا من إيليا إلى غرب إغريقا الكبرى كان في بلدهما كتب كما في آتينا، وأن هؤلاء المتناظرين كانوا يتخذون الكتب لما نتخذه نحن من الأغراض؛ يقرءونها ويعيدونها ويقفون ببعض جملها للتحقق منها. ونحن في شأننا لا نقلب إلا على مثالهم صفحات ما لدينا من الكتب التي في حجم الثمن أو الاثني عشرى التي ليست بأكثر مطاوعة للتقليب من كتبهم.
وفي مقدمة فدر الرشيقة قابل سقراط ذلك الشاب الذي خرج يتنزه في الخلاء بعد أن مضى صباحه قاعدا. فيم قضى فدر صبحه إذن؟ في استماع قطعة كان يقرؤها له ليزياس بن سيفال، وما زال مأخوذا بما قرئ عليه، وقد كان ليزياس أتى خصيصا لهذا الغرض من بيره إلى مونيشيا، فطلب سقراط من صديقه الشاب أن يفسر له ذلك الكلام العجيب، فامتنع فدر بفكرة أنه أقل علما من أن يكرر مثل تلك العبارات الجميلة، ولكن سقراط الذي كان عليما بشغف صاحبه رقيق الحاشية أكد له أنه لا بد أن يكون قد حفظ تلك القطعة عن ظهر قلب؛ لأنه لا بد أن يكون استعاد من مؤلفها أن يقرأها عدة مرات، وأنه لم يقنع بذلك بل لا بد أن يكون أخذ الكراسة المكتوبة فيها حتى يقرأها على خلاء، وأن ذلك كان شغله الشاغل الذي ألهاه عن الخروج صبيحة يومه، فأخذ فدر يتنصل بحجج ضعيفة، ولكن سقراط ألحف في المسألة؛ فأظهره فدر على الرسالة المخطوطة التي كانت بيده مخبأة تحت طرف ردائه.
وأخذ الصاحبان يبحثان وهما سائران على شاطئ الألصوص - حيث كان يغمر فيه سقراط قدميه ليبترد - عن مكان يناسب القراءة بالراحة حتى وصلا إلى مجلس تحت شجرة ساج عالية ظليلة بجانب شجرة كف مريم يعطر نورها الهواء على مسمع من خرير عين صافية بين التماثيل والأصنام القائمة للحور ولنهر أخلاوس، فجلس فدر وسقراط في الظل على الحشيش الغض وقرأ الشاب كتاب ليزياس في النسخة التي معه.
فأثنى سقراط على بلاغة ليزياس، ولكنه لم يصل إلى حد إعجاب صاحبه الشاب وقال له: إن هذا الموضوع قد كتب عليه الحكماء في الأزمان القديمة بما لا يقل إجادة عن هذا، وحسبك منهم الحسناء سافو الشاعرة أو الحكيم أنقريون، بل حسبك أي كاتب من الكتاب، فلم يصدق فدر من ذلك شيئا، وسأله أن يأتي بأحسن مما أتى به ليزياس، وإن لم يفعل على الفور فلن يقرأ له شيئا بعدها؛ فأخذ سقراط لفوره في مسابقة ما ظنها مستحيلة عليه، وأعاد كلام ليزياس في نفس الموضوع على ما فيه من الشطط والإشكال، ولكنه ارتقى كثيرا عن هذه المنافسة التافهة في موضوع مطروق، وانتهز هذه الفرصة ليعطي الشاب درسا في الخطابة والذوق.
إن ليزياس يكتب أكثر مما ينبغي فيجب تعلم الحكم على مؤلفاته حتى لا تعطى من القيمة أكثر مما تساويه في الحقيقة، وإن رجال السياسة البصراء يربئون بنفوسهم عن تأليف مؤلفات تكون بعدهم موضوعا لانتقاد الخلف انتقادا قاسيا، فإذا كتبوا بالمصادفة شيئا كتبوه بكل عناية حتى لا يعاب عليهم. وهذا بيريكليس - أخطب الخطباء وتلميذ أنكساغوراس العظيم - لم يترك شيئا مكتوبا.
وبينما سقراط يرسم قواعد الخطابة الحقيقية إذا به يصل إلى اختراع الكتابة والكتب، على حسب أسطورة محفوظة في نقراطس - إحدى مدائن الدلتا - ربما كان سولون قد رعاها من هناك، أن الكتابة من اختراع الإله توت وهو أفضى بها إلى الملك طاموس الذي كان يحكم في طيبة. ولم يعجب طاموس بهذا الاختراع كما أعجب به مبدعه، وخشي على المصريين من الكتابة التي يبعد عليها أن تصيرهم أكثر حكمة، بل تضرهم متى جعلتهم يعتقدون أنهم يعلمون ما يقرءونه قراءة سطحية في كتبهم.
قال سقراط معضدا رأي طاموس: «يكون الإنسان» من البساطة بمكان إذا تصور أنه يمكن إبداع أي فن من الفنون في الكتب، وأنه «يمكن تعلمه منها، كما لو كان قد خرج يوما من الكتب شيء بين متين، إلا ما يكون» من تنشيط الذاكرة عند الذي كان يعلم من قبل ما تحويه الكتب، وإن محصلات الكتابة أشبه بمحصلات الرسم. سل لوحات الرسم تجبك بسكوت جليل، وسل «الكتب تجبك دائما بهذا الجواب. وقد تعتقد عند استماع ما فيها أنها عليمة ، ولكن مقالا متى كتب دار في كل ناحية؛ فيقع في أيدي من يفهمونه كما يقع في أيدي الذين لم يكتب لأجلهم، وإنه لا يعرف لمن يتكلم وأمام من يلزم الصمت». فإذا احتقره أو عابه أحد بغير حق التجأ إلى أبيه ليساعده؛ لأنه لا يستطيع أن «يقاوم ولا أن يساعد نفسه».
Halaman tidak diketahui