وأما الموصيون الذين كانوا إلى شمال ليديا وغربيها، فكانوا أنزع هذه الأمم إلى الحرب. والفريجيون الذين هم أكثر توغلا في الجهة الشمالية من هؤلاء كانوا يثرون من تربية القطعان، يبيعون من أصوافها وأجبانها ولحومها المملحة بأثمان غالية جدا في أسواق ملطية. وكان الليديون مشتغلين على الأخص بصناعة المعادن؛ لأن نصف أرضهم بركانية تخرج الذهب والفضة والحديد والنحاس ... إلخ. وكانت أخلاق الفريجيين والليديين أخلاق تهيب وحياء، ومن بلادهم يأتي أكثر العبيد.
ومع أن اليونان جاءوا إلى آسيا بالبحر، فلم تكن تظهر عليهم المهارة في فن الملاحة. وعلى قول طوكوديدس لم يكن تفوق البحرية اليونانية حقيقة إلا تحت حكم قيروش وابنه قمبيز، ومع ذلك فقد كان شأنهم أن أقبلوا بجد على أن يتلقوا دروسا عن الكورنتيين الذين كانوا وقتئذ أعلم الناس بإنشاء العمارات البحرية، وانتفعوا بتلك الدروس. على أنهم قد ألجأتهم الحاجة منذ بداية أزمانهم إلى التزام الشواطئ في ملاحتهم. كانت هذه المدائن التي تستجلب كل شيء من داخلية البلاد لا تستطيع أن تحصل على الثراء إلا بتجارة كبرى في الصادرات والواردات، فكانت كبنوك ومراكز معاوضات بين الأهالي والبلاد التي كان يأتي منها الأجانب، فلم يمض على هذه المدائن زمان حتى ظهرت ثروتها على صورة رائعة.
ولما ازدحمت بالسكان وفاضت بالثراء استطاعت أن تنشئ أساطيل قوية، وعمرت كل شواطئ البحر الأبيض المتوسط شمال أفريقية حيث كان لصور وسيدون من قبل منشآت في إغريقا الكبرى وصقلية، وفي بلاد الغالة، وفي إسبانيا أمام عمد هيرقليس وفيما وراءها، وعلى الأخص في القسم الشمالي لبحر أيغاي وفي هليسبنتس، والبروبونتيد، بل في البحر الأسود الذي كان يسمى وقتئذ «الجسر»، حتى لقد قيل إن ملطية وحدها كان لها خمس وسبعون أو ثمانون مستعمرة.
هذا النماء الأول للمستعمرات الإغريقية بآسيا الصغرى - وعلى الخصوص المستعمرات اليونانية - غير معروف إلا قليلا مع أنه استمر على الأقل ثلاثة قرون أو أربعة؛ فإن التاريخ لم يبتدئ حقا إلا حين دخلت المدائن الهلينية الحرب مع المملكة الليدية؛ أي حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، أعني من عهد حكم المرمنادة.
روى هيرودوت على طوله تاريخ جوجيس الذي ارتقى عرش ليديا بقتله قندولس ملكها، وهذه الحكاية ليس عليها إلا مسحة الصدق وإن كانت ليست مطابقة لرواية أفلاطون التي هي بالبداهة أسطورة؛ فإن غضب الملكة زوجة قندولس وغدر جوجيس عشيقها ليس فيه شيء من المستحيلات. وأما حكاية الخاتم فليست إلا أسطورة عامية وجدت بعد ذلك بكثير على صورة أخرى في «ألف ليلة وليلة». ولقد حدث أرخيلوخس - وهو معاصر لقندولس وجوجيس - عن ذلك العسكري الذي صار ملكا، وعن إقدامه وظفره، في إحدى القطع الشعرية التي كان لا يزال يقرؤها هيرودوت.
7
وقد انتهت بموت قندولس العائلة الليدية الأولى التي تدعي أنها سلالة هيرقليس، والتي دام ملكها خمسمائة وخمسة أعوام مدة اثنين وعشرين جيلا من عهد نصف الإله الذي وصلها بنسبة كبريائها، وكان جوجيس هو أول الدولة الثانية دولة المرمنادة.
افتتح جوجيس في أوائل القرن السابع قبل الميلاد عهدا جديدا؛ إذ أخذ يغير على المدائن الإغريقية ملطية وأزمير وكولوفون، وربما كان الحامل له على ذلك أنه أراد أن يبرر اغتصابه للملك ومطاوعة لبعض الضرورات السياسية، في حين أن ليديا كانت وقتئذ بينها وبين الإغريق - خصوصا إغريق القارة - علاقات أقرب ما تكون إلى السلام.
وقد كان جوجيس، كسائر الإغريق في آسيا وفي غيرها، يعتقد وحي دلفوس ويخضع له. ولما كان محاطا بالمكايد من كل ناحية منذ تبوئه العرش، وخائفا من سخط الليديين الذين كانوا شديدي التعلق بالملك الذي ذبحه، أراد أن يدخل الإله في قضيته، فاستشاره وقدم إليه الهدايا الغالية. وقد أقر الإله هذا الغاصب القاتل على عمله، ولكن بوثيا كاهنة دلفوس كانت قد أنبأت بأن عائلة هيرقليس سوف ينتقم لها من شخص الولد الخامس من ذرية جوجيس. وكان هذا الخليفة الخامس هو كريزوس السيئ البخت المشهور بمصائبه أكثر من شهرته بكنوزه التي تضرب بها الأمثال. ولكن لم يك جوجيس في أوج ملكه ولا الليديون في سخطهم ليعبئوا بإنذار الكاهنة، وملك ذلك العسكري الزاني القاتل ثمانية وثلاثين عاما آمنا مطمئنا ما عدا حروبه مع مدن الشاطئ. والظاهر أن ملطية وأزمير وكولوفون سلمت له وخضعت لسلطانه.
وقد حكم أردوس خلف جوجيس أكثر منه أيضا؛ أي مدة تسعة وأربعين عاما؛ فاستولى على بريينة وهاجم ملطية بلا جدوى؛ لأنها استطاعت رد هجماته، وخلفه ابنه سدواتيس، فلم يمكث على العرش إلا اثني عشر عاما ومات، وكانت سنوه الست الأخيرة كلها مشغولة بمحاربة ملطية كما كان يفعل أبوه. ولكن هذه المدينة التي لم يكن يستطيع أن يأتيها من البحر نجحت في الدفاع عن نفسها، على رغم أن عدوها كان يهمك حرثها كل سنة، وكان دائما على قدم الاستعداد ليكرر هجماته المخربة. وفي كل مرة حاول الملطيون الحرب في العراء كانت هزيمتهم أمرا مقضيا. وقد مزقهم العدو كل ممزق مرتين على أرضهم في ليمنيون وفي سهول مياندروس حيث صادف منهم غفلة وسوء احتياط.
Halaman tidak diketahui