وَهَذَا كثير فِي أشعارهم. وعَلى هَذَا يلْزم الْمَيِّت الْعقُوبَة، لِأَنَّهُ أوصى بذلك وَأمر بِهِ.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن " الْبَاء " فِي قَوْله: ببكاء أَهله بِمَعْنى " عِنْد "، كَقَوْلِه تَعَالَى: ﴿والمستغفرين بالأسحار﴾ [آل عمرَان: ١٧] وَالْمعْنَى أَنه يعذب عِنْد وَقت النِّيَاحَة، وغالب النِّيَاحَة يَقع عِنْد قرب الْعَهْد، ومعظم عَذَاب المعذب فِي الْقَبْر يكون عِنْد نزُول اللَّحْد، ثمَّ يَدُوم مِنْهُ مَا يَدُوم، فَيكون الْعَذَاب وَاقعا حَال النوح لَا بِسَبَب النوح. حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ عَن بعض أهل الْعلم.
وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن النوح يتَضَمَّن الثَّنَاء على الْمَيِّت بفضائله، وَكَانَ الْغَالِب على فَضَائِل الْجَاهِلِيَّة أَنهم يسْتَحقُّونَ التعذيب بهَا، فَإِنَّهُ قل أَن يرؤس مِنْهُم إِلَّا متجبر، وَكَانُوا يُغير بَعضهم على بعض، فَيصير لَهُم الْأَمْوَال من ذَلِك. فَإِذا قَالَت النائحة: يَا رئيساه، وَيَا جبلاه، عذب لكَونه رَأس بِغَيْر حق، وَعلا على وَجه التجبر، فيعذب بِمَا يمدح بِهِ، ويضاف الْعَذَاب إِلَى النوح لِأَنَّهُ السَّبَب فِي ظُهُور الْعَذَاب. وَنَحْو هَذَا قَوْله: ﴿ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم﴾ [الدُّخان: ٤٩] فَهَذَا مِمَّا يوبخ بِهِ أَبُو جهل فِي النَّار، لِأَنَّهُ عز بِغَيْر حق.
وَرُبمَا وَقع تَعْذِيب الْمُسلم بقوله النائحة: واعضداه، من جِهَة أَنه كَانَ يظنّ أَنه عضد لأَهله فِي بَاب الرزق، وَأَنه ركنهم فِي النَّصْر، كَمَا قَالَ بَعضهم عِنْد الْمَوْت لأَهله:
(إِلَى من ترجعون إِذا حثوتم ... بِأَيْدِيكُمْ عَليّ من التُّرَاب)
وَيُؤَيّد هَذَا مَا أخبرنَا بِهِ هبة الله بن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن
1 / 58