مني لاكون غريبا، وجاورت من هو خير مني لأضرب لي بينهم نصيبا، فأعيش عيش الغرباء، وأفوز بصحبة الأدباء، فالغريب مرحوم في غربته، ملطوف به في صحبته، فقصدت المنازل، غير مضر بالنازل، أبتنى بيتي من حافات الأنهار، وأكتسب قوتى من مباحات القفار، فلست للجار كمن جار، ولا لأهل الدار كالغدار، بل أحسن جواري مع جاري، أكثر سوادهم، ولا أستطعم زادهم، فزهدى فيما في أيديهم، هو الذي حببنى إليهم، ولو شاركتهم في قوتهم، ما بقيت معهم في بيوتهم، فأنا شريكهم في أبنيتهم، لا في أغذيتهم، مزاحمهم في أوقاتهم، لافي أقواتهم، مكتسب من أخلاقهم، لا من أرزاقهم، منتهب من جمالهم، لا من مالهم، مقتبس من برهم، راغب في حبهم لافي حبهم، فزهدي بما في أيديهم هو الذي حببنى فيهم، مقتديا في ذلك بإشارة صاحب البشارة ﷺ (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)، وفي ذلك أقول:
كُنْ زَاهِدًا فِيمَا حَوَتْهُ يَدُ الوَرَى ... تُضْحَى إلى كُلِّ الأَنامِ حَبِيبًا
أَوَ مَا تَرَى الخُطَّافَ حَرَّمَ زَادَهُمْ ... فَغَدا رَبِيبًا في الحُجُورِ قَرِيبًا
قلت: لله درك لقد عشت عيشا سعيدا، وسرت سيرا حميدا، ووفقت أمرا رشيدا، وقلت قولا سديدا، ولا أطلب على موعظتك مزيدا، فالعاقل يفهم، والجاهل يندم.
1 / 81