فقاطعتني هامسة: اسكت، أتقصد عارف سليمان؟ إنه على بعد أمتار منك، هو الساقي الواقف وراء البار.
استرقت إليه النظر في وقفته التقليدية. مترهل، أبيض الرأس، تعكس عيناه نظرة ثقيلة وديعة، ولا شك أنها قرأت الدهشة في عيني فقالت: لم يكن ضحية لي كما قد تظن، كان ضحية ضعفه.
وقصت علي قصة عادية؛ فقد جن بها ولكنها لم تشجعه قط، ولم تكن موارده تسمح له بالتردد الدائم على الملهى، فامتدت يده إلى اختلاس أموال الدولة، وظهر بين الرواد كالوارثين ولكنها لم تنل منه مليما واحدا، ولم تنشأ بينهما إلا العلاقة الرسمية التي تنشأ بحكم تقاليد الملاهي الليلية، ولم يتقدم خطوة حتى ضبط متلبسا فقدم للمحاكمة ودخل السجن. - إنها مأساة ولكن لا ذنب لي فيها، ولما غادر السجن بعد سنوات جاءني في الملهى نفسه، وقال لي: لقد ضعت إلى الأبد. رثيت له، وتوجست منه خيفة، فتشفعت له عند صاحب الملهى فألحقه بوظيفة جرسون، ولما اعتزلت العمل وفتحت هذا المقهى اخترته لعمل الساقي، وهو يقوم به على ما يرام.
فمسحت على شاربي متسائلا: ألم يحن إلى غرامه القديم؟ - بلى، وهو جرسون في الملهى، وضايقني حتى تعرض لعلقة أليمة، وكنت يومذاك زوجة للفيل بطل رفع الأثقال، ثم تزوج بعد عام من راقصة في الكومبارس، ما زالت زوجته، وأما لسبع بنات من صلبه، وأعتقد أنه اليوم موفق وسعيد.
ثم وهي تغرق في الضحك: يحلو لنا أحيانا اليوم أن نتبادل الحب شفويا. - هكذا الماضي ينسى! - ولكن كان له زميل وثب على غير توقع إلى وظيفة وكيل المالية، كان ينقم على الحياة من أجله، حتى أحالته الثورة إلى المعاش فهدأ ثائره وعشق الثورة.
انضممت إلى أسرة الكرنك بصفة نهائية، ونفذت الأسرة في صميم حياتي. منحتني قرنفلة صداقتها ومنحتها، لعبت النرد مع الشيوخ محمد بهجت، ورشاد مجدي، وطه الغريب، عرفت الشباب وعرفوني خاصة زينب دياب، وإسماعيل الشيخ، وحلمي حمادة، كما عرفت زين العابدين عبد الله مدير العلاقات العامة بإحدى المؤسسات، حتى إمام الفوال الجرسون وجمعة مساح الأحذية وعامل النظافة صارا لي صديقين، وعرفت سر الكرنك الاقتصادي؛ فهو لا يعتمد أساسا على زبائنه المحدودين، ولكن على أصحاب الحوانيت بشارع المهدي وزبائنهم، وهو السر وراء جودة مشروباته وامتيازها. ومن أسراره أيضا أنه كان - وما زال - مجمع أصوات عظيمة الدلالة، تفصح نبراتها العالية والخافتة عن حقائق التاريخ الحي. لا يمكن أن تنسى أحاديث القوم على عهد انضمامي إليهم، لا يمكن أن ينسى امتنان قرنفلة وهي تقول عند أي مناسبة: لنحمد الله الذي أنعم علينا بالثورة.
وكان عارف سليمان الساقي وزين العابدين مدير العلاقات العامة، يقدسان الثورة أيضا، كل بطريقته ونواياه. ولم يكن الشيوخ أقل حماسا، وإن رددوا أحيانا وبحذر شديد: لم يكن الماضي شرا خالصا.
ومن ركن الشباب انبعث الحماس فوارا كالهدير، عند أكثريتهم يبدأ التاريخ بالثورة مخلفا وراءه جاهلية مرذولة غامضة. إنهم أبناؤها الحقيقيون، ولولاها لتشرد أكثرهم في الأزقة والحواري والضياع. قد تند عنهم أيضا أصوات معارضة توحي بيسارية متطرفة، أو إخوانية حذرة هامسة، ولكنها لا تلبث أن تضيع في الهدير الشامل. ولفت نظري بصفة خاصة إمام الفوال الجرسون وجمعة مساح الأحذية، يتغنيان بعنتر وفتوحاته، يعاتبان مرارة العيش ولكنهما يتغنيان بعنتر وفتوحاته، كأن الفقر هان عليهما من أجل النصر والكرامة والأمل. على أن تلك النشوة لم يزهد فيها أحد حتى الحاسدون والحاقدون، لم يخل أحد من رواسب الذل والهزيمة والخذلان، فألهبهم الظمأ نحو الكأس المترعة بتحديات العدو القديم، نهلوا منها حتى الثمالة وراحوا يرقصون من وجد الطرب، وأي جدوى ترجى من النقد عند السكارى؟ أتقول الرشوة ... الاختلاس ... الفساد ... القمع والإرهاب؟ ... طظ، أو فليكن، أو أنه شر لا بد منه، أو ما أتفه ذلك، خذ رشفة من الكأس السحرية وارقص معنا. •••
عندما ترجع قرنفلة من عند الحلاق تسترد إلى حين قدرا من الجمال، وتشتعل الحيوية في عينيها العسليتين، وأغراني ذلك مرة لأن أسألها: لا زوج الآن ولا ذرية؟
ولكنها لم تجب وندمت على ما فرط مني، ولما لمست ضيقي قالت لتخفف عني وهي تشير إلى الزبائن: أحب هؤلاء ويحبونني.
Halaman tidak diketahui