Berapa Usia Kemarahan?
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Genre-genre
وواقع الأمر أن هيكل لم ينطق بحرف حين كانت الاعتقالات تحدث جزافيا، وتنتهي في حالات معينة بعاهات مستديمة للمعتقلين، وربما موتهم، لم يحركه امتهان كرامة الإنسان أو لجوء فئة معروفة من السجانين إلى ممارسات غير آدمية، وكل ما دافع به عن نفسه أنه هو الذي صاغ عبارة «زوار الفجر» ... ومتى؟ عندما كان الانهيار قد حدث، وكان النظام في حاجة إلى ما يهدئ مشاعر الشعب المجروح بالهزيمة عن طريق ممارسة محدودة للنقد الذاتي، أما في ذروة أيام القمع فلم يحرك ساكنا.
ويقدم إلينا هيكل أوصافا وتفاصيل طريفة عن إحساس السادات بالعظمة، وبأن الآخرين إلى جواره «أقزام»، وعن عزلته المتزايدة وتناقص عدد مستشاريه يوما بعد يوم، ولكنه يصف هذه الظاهرة كما لو كانت عيبا شخصيا في السادات، ولو تعمق في الأمر قليلا لأدرك أن أسلوب الحكم الفردي لا بد أن يؤدي إلى هذا النوع من جنون العظمة، فحين يمسك فرد واحد، لمدة سنوات عديدة، بسلطات هائلة في يديه، وحين يسمع كلمات الموافقة والطاعة من كل المحيطين به، وحين تملأ صوره وأخباره وكلماته أجهزة الإعلام صباح مساء، وحين تتحول أية رغبة له إلى واقع فعلي بمجرد أن ينطق بها، وتتقرر المصائر والسياسات بكلمات من قلمه ... حين يحدث ذلك كله لفرد واحد، لا بد أن ينتهي تكوينه النفسي إلى عدم التوازن. وكم ألفت كتب عن هذه الظاهرة في حالة عدد كبير من الحكام الفرديين، ومع ذلك فإن هيكل يقدمها إلينا كما لو كانت تعبيرا عن اختلال في شخص السادات نفسه، ويتجاهل الجانب العام للظاهرة، الذي يجعلها نتيجة ضرورية لانفراد إنسان واحد بعدد هائل من السلطات.
إن القضية ليست قضية السادات وحده، ولا عبد الناصر وحده، بل قضية أسلوب الحكم الذي لا يستند إلى تمثيل شعبي حقيقي؛ ذلك الأسلوب الذي أدركه هيكل في حالة السادات، ولم يدركه قبل ذلك، والأمر المؤسف هو أنه كان واعيا به؛ إذ كان هو الذي نصح السادات، بعد انتصاره في حركة التصحيح، بأن يحدث الناس في خطابه إلى مجلس الأمة عن قضية الديمقراطية؛ لأنها هي «القضية التي تهم الناس مباشرة في هذه الظروف. إن الناس يريدون أن يسمعوه وهو يؤكد لهم ضمانات حرياتهم. لقد أفلتوا بالكاد من شبح دكتاتورية كان يمكن أن تصل في تجاوزاتها إلى حد بعيد.»
1
إذن فقد كان هيكل يعلم أن الناس تواقة إلى الديمقراطية، وأن الجناح الذي هزم، والذي هو الملتصق بعبد الناصر والمنفذ لسياسته، كان دكتاتوريا، فهل حاول في ذلك الحين أن يدافع عن المبدأ الذي تحول الآن إلى داعية له، أم أن الديمقراطية لا تجد من ينادي بها إلا حين يكون الحاكم في موقع الضعف، بينما تسحق بالأقدام بمجرد إحساسه بالقوة؟
إن هيكل على العكس من ذلك، طلع علينا - خلال فترات الشعور بالقوة - بنظرية «الديمقراطية بالموافقة»، ويعني بها أن يكون الحاكم على وعي بمطالب الجماهير وأمانيها، فيحققها لها ، وعندئذ لا بد أن يكون تصرفه ديمقراطيا؛ لأن الجماهير ستوافق حتما عليه؛ ولأنه تعبير صادق عما تريده الجماهير. ويدافع هيكل، في حديث قريب، عن هذه الفكرة، مؤكدا أنه لم يقل بها إلا بعد أن اتخذت القرارات الكبرى المعبرة عن موافقة الشعب، كتأميم قناة السويس والتطبيق الاشتراكي وبناء السد العالي ... إلخ. ولم يدرك هيكل أنه حتى هذه القرارات الكبرى ينبغي أن تستند قبل اتخاذها لا بعده، إلى إرادة شعبية، أما لو اقتصر الأمر على اتخاذها من أعلى، فستظل معرضة للخطر، وهذه بالفعل كانت الغلطة الكبرى للعهد الناصري؛ فقد اتخذ بالفعل قرارات كبرى وحاسمة، ولكنها لم تنبثق عن الشعب وإنما أتت من أعلى، وظلت معتمدة على بقاء الزعيم الذي أوجدها، فلما اختفى، انهارت بعده وكأنها بيت من ورق.
وهكذا كانت نظرية «الديمقراطية بالموافقة» بدعة هيكلية، ينكرها أي حس ديمقراطي سليم، بل إننا لا نعدو الصواب إذا قلنا إنها سلاح ذو حدين؛ إذ إن السادات كان يؤكد، من جانبه أن «99,9٪ من شعبي يؤيدني في زيارة القدس، وفي الصلح والتطبيع مع إسرائيل، ولا يعارضني في ذلك إلا مجموعة من الأرذال! ...» أترون إلى أين يمكن أن تؤدي بالشعب أفكار خطيرة كالديمقراطية بالموافقة؟
إن الحكم الفردي، حتى لو بلغت إنجازاته عنان السماء، يظل معرضا للوقوع على الدوام في كوارث، وما كانت كارثة 1967م - التي لم يعرض لها هيكل في كتابه إلا بطريقة سريعة وفي مساحة تقل بكثير عما خصصه للحديث عن مسكن السادات أو زوجات أبيه - ما كانت في حجمها وفي فداحتها إلا نتاجا للحكم الفردي. والواقع أن مشكلة هذا الأسلوب في الحكم هي أن خطأ الفرد فيه يمتد إلى أمته بأسرها، على حين أن تأثير الخطأ في الحكم الديمقراطي يكون أضيق نطاقا بكثير، فضلا عن أن احتمالاته أقل، وإمكانية إصلاحه أكبر، ومن هذا النوع كان خطأ عبد الناصر في التقدير عام 1967م، وخطأ السادات في أسلوب التفاوض بعد حرب 1973م، وزيارته للقدس عام 1977م، إنها كلها قرارت فردية لحاكم فرد، معرض كسائر البشر للخطأ، ولكن خطأ يتحول، بسبب طبيعة حكمه، إلى كارثة.
وتلك كلها مسائل لم يحاول هيكل أن يتطرق لها، بل عرض في الفصل الأخير من كتابه لأخطاء السادات كشخص، ولم يتناول أسلوب الحكم الذي كان السادات أحد مظاهره؛ ومن هنا شاع التفاؤل في صفحات الكتاب الأخيرة، ما دامت الشخصية «الشريرة» قد اختفت، وحلت محلها شخصية ذات مزاج مختلف. •••
والآن فلقد كنت طوال حديثي السابق أتحدث بلسان المفكر السياسي أو الاجتماعي، ومع ذلك فإني لا أستطيع أن أقاوم إغراء العودة، في نهاية هذا الحديث الطويل، إلى ممارسة مهنتي الأصلية: الفلسفة! فحين تأملت مواقف هيكل وأساليب تفكيره، توصلت إلى مجموعة من النقاط، أستطيع أن أطلق عليها اسم «مبادئ الفلسفة الهيكلية»، فما هي هذه المبادئ؟
Halaman tidak diketahui