واعلم أن طريقة الجوهري يؤمن فيها التصحيف في الأول والأخير البتة؛ لدلالة الباب والفصل عليهما، وفيما عداهما في الغالب؛ لدلالة ما سبق أو ما يأتي على ذلك، وحيث لم يؤمن التصحيف صرحوا بما يرفع الإشكال، ولا يبقى مجالا للاحتمال كقول الجوهري: «الشبادع: العقارب، واحدتها: شبدعة بالكسر والدال غير معجمة.»
وطريقة الجمهور يؤمن فيها التصحيف في الأول والثاني البتة وفيما عداهما في الغالب، ويصرحون بما يرفع الإشكال في المواضع التي يكون له فيها مجال؛ فإن قلت: أي الطريقتين أرجح؟ قلت: لا فرق بينهما في بادئ الرأي؛ لأن الباحث يحتاج على كل حال إلى تجريد الكلمة من الزوائد وإرجاعها إلى أصلها، وإذا تيسر له ذلك سهل عليه معرفة موضعها من كتب الفريقين، وإذا دقق النظر وجد طريقة الجمهور أسهل مسلكا؛ وذلك لأن طريقة الجوهري تتوقف على معرفة الآخر فإذا لم يعرف لم يمكن أن يعرف باب الكلمة، ومعرفة الآخر أصعب من معرفة ما سواه غالبا. فإذا أراد المبتدئ أن يبحث عن مثل «إبان» و«برهان» و«عرجون» لم يدر هل النون فيها أصلية؟ فيراجعها في باب النون؟ أم زائدة فيراجعها في غيره؟ والحيرة في مثل هذا أقل من الحيرة في مثل «يد» و«دم» و«ابن» و«أب» و«أخ»، مما حذف آخره، وفي مثل «خبأ» و«ذرأ» و«برأ» مما يحتمل أن يكون مهموزا فيرجع فيه إلى باب الهمزة في أول الكتاب، أو ناقصا فيرجع فيه إلى باب الواو أو الياء في آخر الكتاب، ولنذكر لك أمثلة أخرى.
فمن ذلك: «الجفاء» بالضم، وهو ما نفاه السيل؛ فإنه من: جفأ الوادي إذا رمى بالقذى والزبد، فإنه يذكر في باب الهمز، وأما «الجفاء» بالفتح وهو خلاف الصلة، فإنه يذكر في باب الواو؛ لأنه مصدر جفوته إذا هجرته، ومن ذلك «الداء» و«الدواء»؛ فإن الداء يذكر في باب الهمز؛ لأنه من ذوات الهمزة، ويجمع على «أدواء»، و«الدواء» يذكر في باب الياء؛ لأنه من ذوات الياء، ويجمع على «أدوية»، وأما الكتب الموضوعة للجمهور فإن مثل «برا» و«برأ»، و«ذرا» و«ذرأ»، و«جفاء» و«جفاء»، يذكر في باب واحد في فصل واحد.
نعم، قد يقع الإشكال في الأول في مثل «ابن» و«إثمد» و«أصبع»؛ فإن الهمزة فيها زائدة غير أن الإشكال فيه أقل.
والظاهر أن الذي دعا الجوهري إلى المسلك الذي سلكه مع أنه أصعب من المسلك الآخر هو رعاية جانب أهل الأدب؛ فإنه إذا جمعت الكلمات المتحدة الأواخر في باب تيسر لهم أن يقصدوه لمعرفة الكلم التي على روي واحد من غير مشقة ونصب، وذلك من المهمات في النظم والنثر الذي ينحى به منحاه، وقد جرت عادة كثير من الشعراء أن يعدوا القوافي قبل النظم، وأكثر ما يشكل في الشعر من الكلم في الأكثر: الكلم التي ترد في القوافي، ولا يخفى أن للقوافي شأنا غير شأن غيرها؛ حتى تغاضوا فيها عن ورود الغريب الذي لم يتجاوز الحد في الغرابة لمكان الاضطرار إليها، ويكفيك ما شاع من قول الناس: «هذا مما جرته القافية.» ويذكر أن بعض أهل الأدب عمل أبياتا في وصف مدامة شربها وذكر فيها أنها جعلته في العي يحكي فلان بن فلان، فسمع بذلك المهجو فقال له: لم هجوتني وأنا من أصدقائك؟ فقال: لأنك قعدت على طريق القافية.
وقد رأيت كتابا كبيرا في اللغة العربية رتبه صاحبه على القوافي إلا أنه فسر الكلمات فيه بالفارسية لإفادة الفرس، وإذا عرفت ما اختصت به الطريقة الجوهرية فلنذكر لك ما اختصت به الطريقة الجمهورية: وهي جمع الكلمات المتقاربة في اللفظ والمعنى في فصل واحد، وذلك أنه قد ثبت عند علماء الاشتقاق أن التقارب بين اللفظين يدل على التقارب بين المعنيين نحو: «قسم» و«قصم» و«قدر» و«قتر»، مما اتفق فيه الأول والثالث، واختلف فيه الوسط، ونحو: «صعد» و«سعد» و«قضم» و«خضم» مما اتفق الثاني والثالث واختلف الأول، ونحو: «أبد» و«أبق» و«بتر» و«بتك»، مما اتفق فيه الأول والثاني واختلف فيه الثالث، قال بعضهم في هذا النوع: وهو الذي يجمع في طريقة الجمهور في فصل واحد إذا أمعنت نظرك في التراكيب اللغوية وجدت بين كل كلمتين اتفقتا في الفاء والعين اتصالا؛ فإن تقارب اللامان في المخرج كان التقارب بين المعنيين أشد، وإن تباعدا كان التباعد بين المعنيين بقدر ذلك.
وأما أصل الاتصال فلا بد منه يظهر ذلك عند إمعان النظر، وذلك المعنى هو الجهة الجامعة لهما وإن خفيت، وقد ظهر من البحث والنظر أن تركيب الهمزة مع الباء يدل على النفور والبعد والانفصال، ويظهر ذلك في: «أب» و«أبد» و«أبق» و«أبى» ونحوها؛ فإن كل واحد منها لا يفارقه ذلك المعنى، يقال أب إذا تهيأ للذهاب، وأبدت البهيمة إذا نفرت وتوحشت، وأبق العبد إذا هرب من سيده، وأبى الرجل إذا امتنع، وإن تركيب الهمزة مع الزاي يدل على الضيق والشدة؛ ويظهر ذلك في: «أز» و«أزق» و«أزل» و«أزم» ونحوها، وأمثلة ذلك كثيرة وقد أوردوا ما يكفي للتدريب، وباقيه يحتاج إلى من يثيره من مكامنه، وكأن القائلين بهذا القول يذهبون إلى أن الأصل في هذا الباب هو حرفان وضعا لمعنى، ثم زيد عليهما حرف آخر ليدل على معنى آخر يكون بمنزلة النوع للمعنى الأول الذي هو بمنزلة الجنس لأنواع معاني الألفاظ التي نشأت عنه بالزيادة، وهذا بحسب الظاهر يخالف ما قرروه؛ فإنهم ذكروا أن ما كان على ثلاثة أحرف لا يحكم على حرف منه بالزيادة، وهذا كالمتفق عليه، قال سيبويه في كتابه: «وأما ما جاء على ثلاثة أحرف: فهو أكثر الكلام في كل شيء من الأسماء والأفعال وغيرهما مزيدا فيه وغير مزيد فيه؛ وذلك لأنه كأنه هو الأول فمن ثم تمكن في الكلام، ثم ما كان على أربعة أحرف بعده، ثم بنات الخمسة وهي أقل، لا تكون في الفعل البتة، ولا يكسر بتمامه للجميع؛ لأنها الغاية في الكثرة فاستثقل ذلك فيها.»
فالكلام على ثلاثة أحرف وأربعة أحرف وخمسة لا زيادة فيها ولا نقصان، والخمسة أقل الثلاثة في الكلام؛ فالثلاثة أكثر ما تبلغ بالزيادة سبعة أحرف وهي أقصى الغاية والمجهود، وذلك نحو: «اشهيباب»، فهو يجري على ما بين الثلاثة والسبعة، والأربعة تبلغ هذا نحو: «احرنجام»، ولا تبلغ السبعة إلا في هذين المصدرين، وأما بنات الخمسة فتبلغ الزيادة ستة، نحو «عضرفوط»، ولا تبلغ سبعة كما بلغتها الثلاثة والأربعة؛ لأنها لا تكون في الفعل فيكون لها مصدر نحو هذا، فعلى هذا عدة حروف الكلم، فما قصر عن الثلاثة فمحذوف، وما جاوز الخمسة فمزيد فيه.
وكأن علماء الصرف أجمعوا على أن الاسم المتمكن والفعل لا يبنيان من أقل من ثلاثة أحرف، واحترزوا بالمتمكن عن غير المتمكن وهو المبني؛ فإنه لمشابهته للحرف قد يبنى من أقل من ثلاثة أحرف كالحرف، وذلك مثل «من» و«هي»، فإن وجد اسم متمكن على أقل من ثلاثة أحرف «كأب» و«أخ» حكموا بأنه قد حذف منه شيء، وأصلهما عندهم: «أبو» و«أخو»، ويدل على ذلك أنه يقال في تثنيتهما: «أبوان» و«أخوان»، وقد استقرءوا الكلم فوجدوا أن الأبنية الثلاثية أكثر مما سواها، وحكموا بأنه أعدل الأبنية، وأن الأصل في كل كلمة أن تكون على ثلاثة أحرف: حرف يبتدأ به، وحرف يوقف عليه، وحرف يكون واسطة بينهما.
إذا عرفت ما ذكرنا ربما عرض لك الإعراض عن القول السابق متعللا بأن إجماع علماء الصرف حجة فإنهم صرفوا أعمارهم في هذا الفن، ووجهوا أنظارهم إلى دقائقه، فإذا اتفقوا على شيء منه ولا داعي لهم على ذلك من رغبة أو رهبة لم يكن ذلك إلا لكونه صوابا؛ إذ يعسر الحكم بخطئهم أجمعين بعد إعطائهم النظر حقه، لكن إذا أمعنت النظر ربما ظهر لك ذلك القول ربما لم يكن مصادما للإجماع؛ لأن كثيرا من المسائل يختلف الحال فيها باختلاف الفن، ألا ترى أن النحوي المنطقي يجزم بأن عبد الله - إذا كان علما - مفرد؟ هذا إذا كان يبحث في المنطق؛ لأنه لا فرق بينه وبين زيد في كونه لا يدل جزء لفظه على جزء معناه، فإذا كان يبحث في النحو يرجح كونه مركبا رعاية لجانب اللفظ، فحكمه عنده حكم قولك: أنا عبد الله، إذا لم يكن ذلك اسمك لوجود جزأين فيه قد أعرب كل واحد منهما بإعراب، ولعلك تقول إن هذا ليس باستدلال بل هو من قبيل إيراد المثال، وهو لا يزيل ما حاك في صدري من الإشكال، فهل عندك أقرب من هذا إلى الفهم وأبعد منه عن الوهم؟!
Halaman tidak diketahui