وكان يخيل إليه أنه سيظل يرتجف رعبا إلى أن تطلع الشمس، وسيصرخ لدى كل خرفشة أو صوت، ولكنه وهو راقد وقد ارتاح ظهره ونملت أطرافه كان يحس باللامبالاة التامة، والسكون الذي حوله أقبح سكون، والوحدة التي يحس بها باردة رهيبة لا أمل في انتهائها، والمدفن يعبق بالزمن والقدم والعصر الذي ولى، والفراش هو الآخر يملأ أنفه برائحة مقززة، وكأن المراتب والمخدات والملاءات قد تكون لها صدأ على مر الزمان وأصبح لصدئها رائحة، وهو راقد هكذا في قلب الرعب لم يكن يحس بأي خوف. وأحيانا تبدو التجربة لا يحتملها بشر، فإذا أصبح الإنسان فيها تقبلها بهدوء، يكون هو أول من يعجب له.
ومضى يستعرض أحداث اليوم الحافل الطويل الذي خيل إليه أنه بدأ من شهر فات، وكلما تذكر مبلغ ما لاقاه من تعب دقت شرايين صدغه، ثم أصبح دقها هو كل ما يشغل ذاكرته وقد بدأ النوم يحتويه، ولكن قبل أن يغفو هبط الدق الذي في صدغيه ليرتفع دق آخر في أذنيه، وارتفع دق الأذنين كثيرا حتى لفت نظره وطرد عنه النوم، ثم ما لبث أن استرعى انتباهه كله وصحى تماما وأدرك أنه صادر من الباب الخارجي للمدفن، وتثلجت أطرافه في الحال، كان الدق مزعجا كئيبا كزئير وحش مذبوح، وشلت كل الحياة في حمزة ولم يعد فيه إلا أذناه تتسمعان وتلهبان قلبه وأنفاسه.
واستمر الدق يزأر ويستوحش وينهش لحم السكون، ثم انقطع فجأة، ومع هذا ظل لا يتحرك ويكاد لا يتنفس أو يفكر مخافة أن يعيد إليه تفكيره ذلك الدق، وأصبح قلبه هو الشيء الوحيد الذي يتحرك ويصدر صوتا في الحجرة، بل في المدفن والجبانة بأسرها، وضايقته دقات قلبه وكأنه منبه ذو صوت مرتفع تقلق دقاته النائم ومن به أرق، ثم، بدأت الدقات مرة أخرى، رفيعة كخناجر حادة، وقريبة على نافذة الحجرة التي ينام فيها، وتثلج جسده وجاءه من الخارج صوت بشع صادر لا بد عن جمجمة هيكل عظمي: يا أستاذ حمزة.
ولم يدرك أبدا أن هذا هو اسمه أو أنه المقصود، وحتى حين أدرك لم يتحرك ولم ينفعل، وتكرر النداء ووجد نفسه يخرج من حنجرته صوتا واجفا غريبا لا يمت إلى صوته يقول: مين؟ - افتح يا أستاذ حمزة. - مين؟ أنت مين؟ - افتح يا أستاذ حمزة، أنا سيد.
وحشد كل قواه ليرفع صوته ويقول: سيد مين؟
وجاء الجواب: أنا سيد إبراهيم يا أستاذ حمزة.
وتشجع قليلا، وقام إلى النافذة وهو لا يكاد يصلب نفسه وفتحها، ومن خلال حديدها لمح في الظلام الذي أضاءه النور الخارج واحدا يرتدي قميص عمال وبنطلونا أصفر ممزقا، وبدأ الشك ينتابه؛ فقد كان عهده بسيد أنه يرتدي جلبابا، فقال: مين؟ أنت مين؟
واقترب الشخص حتى وضحت معالمه في الضوء، فإذا به سيد فعلا بوجهه المستطيل النحيف وعينيه الواسعتين جدا ورقبته الطويلة ذات الحنجرة البارزة، وكما جاء الذعر فجأة رحل فجأة، وقال حمزة: الله يجازيك يا شيخ، نشفت دمي.
وفتح له، ودخل سيد وسلم عليه بيدين باردتين كبيرتين وهو يقول: أنا بعد ما خلصت شغل في الوابور جاي على هنا علشان طلب في الغورية، عم أحمد بتاع العصير قال لي إنه كان فيه واحد أفندي بيسأل على عم اسماعين، يا ترى مين؟ جيت على أبو دومة قال لي على الحكاية، فقلت أروح أقضي الطلب وبعدين آجي أبات معك أونسك، أصل الجبانة كرب قوي بالليل وانت مش واخد ع الحاجات دي.
وغير مجيء سيد الأوضاع كلها، ونسي حمزة الجبانة والرعب والبرد، وأحس منفعلا بروعة الإنسان، من دقائق كان كالميت في قبره حتى إذا ما جاء إنسان آخر، إنسان واحد فقط مثل سيد وأصبحا جماعة، ذهب الموت والبرد والسكون وغارت الوحدة، وبدأ يحس بإنسانيته وينطلق لسانه متحدثا ضاحكا.
Halaman tidak diketahui