وفيما يلي نسوق بعض أمثلة على مدى تدخل النقل كعنصر حاسم في نجاح أو فشل الإنتاج.
فقد اتفق الاقتصاديون الذين درسوا التغيرات التي طرأت على الزراعة الأوروبية، خلال القرون الثلاثة الماضية، على أن العقبة الأساسية في بطء التقدم الزراعي كان يعود إلى عدم كفاءة الطرق، فمثلا كانت رداءة الطرق في إقليم هازبروك (في الفلاندرز الفرنسية) - خلال القرن 18 وأوائل القرن 19 - تمنع نقل السماد إلى الحقول إلا في فترة متأخرة، بمعنى أن السماد يصل متأخرا عن الموسم الذي يجب فيه تغذية النبات، وسبب ذلك التأخير هو انتظار جفاف الطرق؛ لأن الأمطار تجعل الطرق طينا يستحيل معه النقل.
وفي مناطق أخرى من أوروبا كانت هناك شكوى من أن البضائع والأخشاب لم يكن يتم نقلها إلا بعد جفاف الطرق، وفي هذه الفترة بالذات يكون العمال منشغلين بأعمال الزراعة في الحقول؛ ومن ثم كان النقل يعاني أزمة في تدبير الأيدي العاملة التي يمكن تشغيلها. وعلى هذا فإن تصادف وقوع الوقت الملائم للنقل مع الوقت الملائم للزراعة - موسم البذار أو الحصاد أو قطف العنب أو حرث الأرض - كان يؤدي إلى توقف إحدى العمليتين: إما النقل وإما الزراعة؛ لأن مصدر الأيدي العاملة واحد؛ ومن ثم لم يكن هناك انتظام في عملية النقل الصناعي - نقل الأخشاب من الغابات إلى أفران المصانع، أو نقل الفحم من الموانئ النهرية إلى المصانع - إنما كانت هذه العملية تعتبر نشاطا ثانويا بالمقارنة بالنشاط الزراعي الذي كان الحرفة الرئيسية خلال القرون الماضية.
وقد ترتب على عدم انتظام النقل الصناعي أن المصانع كانت مضطرة إلى تخزين كميات كبيرة من الأخشاب أو الفحم أو الخامات لمدة ستة أشهر مقدما لكي ينتظم الإنتاج الصناعي. وكان هذا يحتاج إلى توسيع مساحة المصانع كثيرا لبناء المخازن، وبذلك كانت هناك إنفاقات كبيرة من رأس المال لا تعوضها أرباح الإنتاج؛ ومن ثم كانت أسعار المنتجات الصناعية عالية وأجور العمال منخفضة؛ مما سبب الكثير من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية في بداية عهد الصناعة.
وتدل الدراسات العديدة على أن تكلفة النقل كانت تعادل 80٪ من سعر الفحم في حالة وجود المصانع على مسافة تقل عن مائتي كيلومتر من مصدر الفحم، وأن التكلفة ترتفع أكثر مع تزايد المسافة بين المصنع ومنجم الفحم.
ولسنا نريد أن نصور النقل على أنه كان وحده العامل المسئول عن تعثر الصناعة وآلام المجتمع في بداية العصر الصناعي في أوروبا، بل كانت هناك عوامل أخرى مرتبطة بمواقع المصانع والشروط الطبيعية في الإنتاج، وسياسات الدول وكارتلات الصناعيين، من بين عوامل أخرى كانت تلعب أدوارا هامة في حياة المجتمعات في تلك الفترة، لكن الذي نريد تأكيده أن تحسن وسائل النقل وتخصص فئة من المجتمع في عمالة النقل، كانتا من بين أسباب انتظام العمل الصناعي والزراعي ورخص منتجاتهما، واتساع السوق الاستهلاكية.
وفي الواقع نجد أن تحسن الطرق قد أدى إلى إيجاد أسواق للسلع المختلفة، وخاصة التوسع الواضح في سوق السلع الزراعية؛ بمعنى أن الطرق الجيدة قد ساعدت - بجانب عوامل أخرى - على إنشاء نظام تجاري منتظم متقارب الأسعار، حتى لو كانت الأسواق بعيدة عن مناطق الإنتاج، وتتضح هذه الحقيقة بصورة جلية حينما ندرس سلوك سوقين داخليتين كبيرتين تتباين فيهما شبكة النقل الحديدي والبري: هذان هما سوق الحبوب في الولايات المتحدة والهند؛ ففي الولايات المتحدة شبكة متقاربة المحاور من الخطوط الحديدية والبرية والنهرية تربط نطاق إنتاج الحبوب في السهول الوسطى بسوق الاستهلاك الضخم في المناطق الصناعية الشرقية ومنطقة الكثافة المدينية على ساحل الأطلنطي. وقد أدى ذلك إلى أسعار متقاربة للحبوب، ولم تكن فوارق الأسعار القليلة إلا تعبيرا عن البعد المكاني وتكلفة النقل؛ ذلك أن السوق منتظمة والحركة أيضا منتظمة في نقل السلع من أماكن الإنتاج إلى مراكز الاستهلاك، ويجب أن نضيف إلى هذا أن منطقة إنتاج الحبوب الأمريكية قليلة السكان؛ مما يسمح بتوجيه غالبية الإنتاج إلى السوق.
أما في الهند فإن كثافة السكان عالية، وخاصة في مناطق إنتاج الحبوب. كما أن شبكة النقل البري والنهري أقل كثافة من مثيلتها في الولايات المتحدة؛ ولهذا فإن الحبوب تستهلك في مناطق الإنتاج أو تدخل السوق بكميات محدودة؛ ولذلك نجد تفاوتا كبيرا في أسعار الحبوب داخل مناطق الهند المختلفة كتعبير عن عدم وجود سوق أو تجارة منتظمة، وكان نمط الهند مشابها لما كان عليه الحال في أوروبا في الماضي: استهلاك محلي واختلاف كبير في أسعار السلع نتيجة لنقص الطرق واختلاف كثافة السكان.
وتأثير النشاط الاقتصادي الحديث - الصناعة والخدمات - قوي وشديد الوضوح على النقل، ولا أدل على ذلك من أن في إقليم الراين الأدنى 40 كيلومترا من أطوال السكك الحديدية لكل 250كم
2 ، وفي بلجيكا 85 كيلومترا من السكك الحديدية لكل 250كم
Halaman tidak diketahui